عندما يعلو صليل الأجراس على الكلمات:
قراءة نقدية ل(أجراس) خالد الصاوى
لكل منا أجراس فى حياته... أحداث عايشناها وشخصيات قابلناها وكلمات سمعناها استطاعت دون عن غيرها أن تقرع جرساً فى وجداننا لتنبهنا لحقيقة ما أو لتوقظ فينا إحساساً جديداً. فى ديوان (أجراس) لخالد الصاوى تمثل كل قصيدة جرساً فى حياته, حالة شعورية أو نفسية قد مر بها... لحظات من الحب والكره, الأمل واليأس, الفرحة والحزن, الحلم والغضب. لذلك يشعر القارىء بأن الديوان هو أقرب للسيرة الذاتية النفسية للشاعر والتى يسجل فيها مشاعره الأكثر حميمية وتقلباتها على مدار ما يقرب من العشرين عاماً. والإقدام على مثل هذا العمل هو شجاعة كبيرة من الشاعر, حيث استطاع أن ينفض عن نفسه جميع الأغطية والعوازل المجتمعية وغيرها ليعرض مكنونات نفسه عارية أمام الناس جميعاً, ويعترف الصاوى بذلك من البداية حيث يقول فى أول قصائد الديوان:
المشخصاتى الواقف الاَن على الخشبة
يبحث فى أنحائه عن ملامح الشخصية المفضوحة
وحينما يعيش فى حياته الجديدة المزيفة
يفقد نفسه الأولى..
ويبات فى الفراغ
وكما يقول الناقد والروائى الكويتى طالب الرفاعى عن هذا النوع من الكتابات أنها " تقوم أساساً على بوح جرىء, يعترف الكاتب من خلاله بأدق تفاصيل خلجات نفسه ومشاعره وعواطفه, وهو بالتالى, أى الكاتب, يقدم على تعرٍ شخصى محفوف بالمهالك." (تجارب فى الإبداع العربى, الصادر عن وزارة الإعلام الكويتية ومجلة العربى يوليو 2009, ص216) فمن الصعب على أى إنسان أن يكشف الغطاء عن أفكاره ومشاعره بهذا الشكل تاركاً نفسه وحيداً, دون أسرار يسكن إليها وخبايا تؤنس وحدته.
وبالرغم من تعدد الحالات الشعورية والنفسية التى تعبر عنها قصائد الديوان, يسيطر عليها جميعاً نوعاً من الخوف المزمن من المرور السريع للزمن. لا يخاف الشاعر من تقدمه فى العمر, على العكس, فهو يرحب به بكل شجاعة, وأنما خوفه الأكبر هو أن ما فاته من عمره قد ضاع هدراً دون هدف أو معنى:
عشرين عاماً حائر أنا
مبددة طاقتى.. كاشتعال بئر فى الخليج
مبعثرة أحلامى كالكلمات المتقاطعة
مشتت الذهن كمخبول بلا بيت
ومن هنا يتحول هذا الخوف من التبدد إلى نوع من التمرد الدائم والصراع مع الحياة من أجل أن يحقق الشاعر ذاته ويخلدها. ولا أعنى هنا الخلود بمعناه الذاتى النرجسى, وأنما الخلود الذى يشوبه الإنتحارية والتبشيرية. فالشاعر على أتم استعداد أن يخسر حياته بشرط أن يكون لها معنى, أن تضيف شيئاً للاَخرين, أن تغير الكون. ولذلك يتلون تمرده على الحياة بالطابع التبشيرى الجرىء الذى يتخذ من الموت صديقاً ومن الإرادة سلاحاً, فيقول الصاوى:
أيها الموت تقدم... أنا لا أخشى ظلامك
وهذا الصراع يقودنا بشكل تلقائى إلى علاقة الشاعر مع الحياة نفسها, والتى يبدو وكأنه فى صراع أبدى معها, وإن تخللت هذه المعركة لحظات قصيرة من السلام المخادع. فالشاعر, كأى طفل, اَمن بجمال الحياة ومثاليتها فى صغره, ولكن مع تقدمه فى العمر بدأت فى خلع أقنعتها وتبدى له وجهها القبيح اللامبالى, ومن هنا تبدأ معركة الشاعر مع الحياة. يكثر تصويرالصاوى لهذا الصراع فى ديوانه, فتارة يشن عليها حرباً كلامية فيصفها بأقذع الصفات ويخلع عليها أشنع التشبيهات, وتارة أخرى يتخذ شكلاً مادياً ملموساً فى صورة معارك وحروب وأسلحة وجنود, ووسط هذا الضجيج القتالى الملحمى, يظهر لنا أمل الشاعر الراسخ فى تبديل تلك الحياة "الاَنية" القاسية بالحياة الاَخرى "اليوتوبية" والتى رسم ملامحها واضحة فى خياله, تلك الحياة التى يعيش فى رحابها ويستنشق عبيرها كلما خلا إلى نفسه, وأصبحت هى الحلم الذى يطارده ليفرض نفسه على الواقع المهترىء:
النهوض الذى أحلم الاَن به..
كون يزيح كوناً طائشاً بلا هدى
فتصبح غايته الأسمى ورحلته الأبدية هى تحويل هذا الكون الخيالى إلى واقع حتى وإن خسر فى الطريق حياته. ولعل أكثر المشاعر التى يمر بها الشاعر إيلاماً ليس إحساسه بتهاوى العالم الاَنى أو الواقعى من حوله, وأنما عندما يستشعر زيف الحياة اليوتوبية بداخله وعقم محاولاته فى تحقيقها! هنا فقط يتملكه اليأس القاتل ويتحول وجوده الإنسانى إلى لعنة تطارده.
وإذ كانت علاقة الشاعر بالحياة هى أحد المحاور الرئيسية للديوان, فإن علاقته بالمرأة تفرض نفسها على الديوان أيضاً. ويستشعر القارىء أن الحياة والمرأة لدى الشاعر هما وجهان لعملة واحدة. فالأصل فى العلاقة هو الصراع, ولكن كما تختلف الأيام فى الحياة, فمنها الباعث على السعادة ومنها الباعث على اليأس والحزن, تختلف أوجه المرأة أيضاً. فهناك الأنوثة والحنان والجمال, وهناك الغش والخداع والتقلب, ولكن تظل المرأة واحدة:
ليست لدى مع النساء ذاكرة
التى أحببتها من ألف عام تشبه الحالية
نفس الأنوثة..
نفس الإجرام..
نفس السطحية!
ولا يعنى هذا مطلقاً أن الشاعر كاره للنساء أو عدو لهن, على العكس تماماً, فهو ينظر للمرأة كرمز للجمال المطلق والأنوثة الكاملة والحنان الأبدى, كما أن قصائد الحب فى الديوان ترسم أسمى أنواع العشق وتلونها بمشاعر صادقة. ولكن المشكلة هى أن الشاعر يتعامل مع المرأة بنفس المنطق الذى يتعامل به مع الحياة, فهو يحبها لدرجة أنه يكره أن يرى بها أى شائبة أو عيب, لذلك هو دائماً فى إنتظار تلك المرأة المثالية التى طالما رسمها فى خياله والتى تختلف عن جميع النساء الاَنيات, وسيظل يبحث عنها للأبد إلى أن يجدها ويحولها إلى واقع, وتظهر هذه الصورة واضحة فى قصيدة (مؤكد هناك من).
ومن العلاقات التى صورها الديوان بصورة رائعة أيضاً هى علاقة الشاعر بموهبته عامة, وشعره خاصة. فلدى الشاعر, ككل الكتاب والفنانين, ذلك الشعور الدائم بالنقص وعدم امتلاك الموهبة الكافية, وأنه لا يجيد الأشياء الوحيدة التى يجيدها:
من الواضح أن المجد لم يتعرف على
من الجلى أننى أسير بنصف موهبة
وأن ما تحتويه القواميس والمعاجم من كلمات لا يكفى للتعبير عما يختلج فى نفسه, وكما يقول جلال الدين الرومى فالشعراء دائماً ما يحاولون الوصول إلى الناحية الأخرى من الكلام. كما أن علاقة الصاوى بشعره هى دائماً مضطربة. فهى مثل علاقة الرجل بعشيقته, تلك العلاقة التى يملؤها الإثارة والعشق والمغامرة, ولكن فى نفس الوقت تنطوى على الشك والكره والخوف. فهو فى حاجة دائمة إلى تلك المعشوقة ولكنه أحياناً يكره إحتياجه إليها ويخاف من هجرها إياه. تلك العلاقة المعقدة تتضح أكثر عندما يعلن الشاعر أن الشعر ليس غايته:
الشعر ليس غايتى..
أنت أيها البعيد.. بغيتى الوحيدة
فأصبح الشعر أداة أو وسيلة أساسية للوصول إلى غاية الشاعر. قد تكون تلك الغاية هى الحياة اليوتوبية أو الحب المثالى أو الخلود, ولكن يظل الشعر هو الخيط المؤدى لتلك الغاية, والمؤنس الوحيد فى تلك الرحلة.
وقبل التوجه إلى عرض السمات والخصائص الأسلوبية للديوان, يجب التأكيد على أن ما تم استنتاجه من أفكار سابقة لا يجب النظر إليها بشكل مطلق لإنها قد تكون لحظية أو لا. ويرجع ذلك إلى طبيعة النصوص الشعرية فى الديوان, فهى, كما سبق الذكر, تعبر عن مراحل وحالات شعورية مر بها الكاتب على مدار عشرين عاماً, فمن الممكن أن تكون أصوات بعض هذه الأجراس قد خفت فى نفس الشاعر, بينما ظل صدى البعض الاًخر مسموعاً حتى الاَن.
الخيال دون واقع سراب, والواقع دون خيال كابوس. استطاع الديوان أن يحمل القارىء فى رحلة تتلاطم فيها أمواج الواقع والخيال معاً. ففى بعض الأحيان يأخذ الصاوى القارىء فى رحلة بديعة فى عوالم أسطورية حيث الملوك والجوارى والعطور الماجوسية, ويخدره بالصور والتشبيهات الحالمة, وفى أحيان أخرى يغمسه فى تراب الواقع ويذكره بإختناق المحور والدائرى وكارثة تسونامى ومشكلة عمال النسيج فى المحلة ونهب اَبار البترول فى الخليج. وهذه الإحالات على المشاكل المعاصرة فى عالمنا توضح أن هموم الشاعر ليست شخصية فقط وأنما وطنية وإقليمية ودولية أيضاً. وبيعداً عن أمواج الواقع والخيال, يظهر فى أكثر من موضع استخدام الشاعر للأساليب والإيحاءات الدينية عامة والقراَنية خاصة. ويرجع ذلك كما أشرت سابقاً إلى طبيعة روح الكاتب الثورية التبشيرية. ففى تمرده على الحياة الاَنية المتهالكة الفاسدة, يرى نفسه كنبى يحمل رسالة سامية ويبشر بكون أفضل.
أما عن الصور والتشبيهات المستخدمة فى القصائد فجميعها جديدة وغريبة تعكس روح الشاعر المتمردة الرافضة لكل ما هو مألوف. فنجده مثلاً يصف الحياة "بتلك الولود الحبلى بالثورة" وعذرية المحبوبة ب "المملة القاحلة" وسنواته الماضية بأنها كانت "سندبادية مزركشة." كما يظهر التناقض فى نوعية الصور المستخدمة فبعضها فج قاس كتشبيهه لقلبه ب "الكلب" وللحياة ب "العاهرة الرخيصة," والبعض الاًخر رقيق وحالم كوصفه لمحبوبته ب "الوردة الزرقاء السماوية." وعلى الرغم مما يسبه هذا التناقض من ارتباك وتشتيت, فأنه يمتد ويقسم الصور والتشبيهات ما بين الحسى والخيالى بهدف التعبير عن العالمين اللذين يعيش بينهما الشاعر كما سلف الذكر. وتحتوى قصائد الديوان على الكثير من الموسيقى- مع أنها ليست من السمات المميزة لقصيدة النثر- التى تنبعث ليس فقط من السجع فى بعض السطور الشعرية وأنما هى موسيقى داخلية خفية تظهر نتيجة لانسياب المشاعر الصادقة.
يعتبر ظهور الشعر الحر تمرداً على الشعر القديم الموزون, وقد جاء ديوان (أجراس) محتوياً على قصائد شعر حرة (قصائد النثر فى الأغلب والقليل جداً من شعر التفعيلة) مما يظهر تمرد الشاعر وثوريته. وعلى الرغم من ذلك نجد أن قصيدة (عشر جوارِ وأميرهم) جاءت بالشكل الموزون التقليدى, وهى أيضاً مختلفة من ناحية اللغة والصور والرمزية عن باقى قصائد الديوان, مما جعلها تشكل تمرداً على التمرد!
من يطالع الديوان لأول مرة يعتقد أن ترتيب القصائد فى الديوان عشوائى وينقصه النظام. ولكن هذه العشوائية- فى رأيى- تعكس ناحية جمالية. فقد اتخذ الديوان من الفوضى نظاماً, تماماً كالحياة التى وصفها الصاوى ب "سيمفونية الفوضى المنسقة." فليس هناك منهجاً محدداً تسير عليه الحياة, فليس بالضرورة أن يأتى بعد الخوف أمان أو بعد الحزن فرح أو بعد المقاومة استسلام. لذلك أراد الشاعر أن يجعل القارىء يمر بالتجربة الحياتية كما هى دون تجميل أو تشذيب.
خلاصة القول هى أن خالد الصاوى تمكن فى (أجراس) أن يمزج بين موهبته وواقعه وتجربته الذاتية, حيث أن العمل الفنى "تتعاظم قيمته حين يرتبط بالتجربة الخاصة بالمبدع, تلك التى تتيح له القدرة المضاعفة فى تميز إبداعه." (د. محمود إسماعيل, مجلة أدب ونقد الصادرة عن حزب التجمع, العدد 228, أغسطس 2009, ص18), أى أنه لم يقدم إبداعاً فقط ولكن إبداعاً متميزاً. فبعد أن ينتهى القارىء من الديوان لن تعلق فى ذهنه الكلمات والصور وما إلى ذلك وأنما ستلتصق بوجدانه أحاسيس الشاعر لفترة, تلك الأحاسيس الصادقة القوية التى طغت على الكلمات وحولت القصائد إلى مشاعر منطوقة.
منال شلبى
22\9\2009