Tuesday, July 31, 2007

نظرة


من صاحب الشعار المريب "الشرطة والشعب في خدمة القانون"؟! ولماذا أصبح بديلا للشعار المنطقي السابق "الشرطة في خدمة الشعب"؟! وأيّ الشعارين أقرب لروح كل دساتير العالم المعاصر؟
"الشرطة في خدمة الشعب" كان شعارا براقا أكثر منه واقعا يوميا، ولكنه كان واضحا في نسب السيادة للشعب، والجيل الذي ينشأ على ذلك الشعار يقرّ في وعيه أن الشعب هو أصل جميع السلطات، ورغم أنه يقابل في الحياة مشاهد غير سارة أحيانا تخص علاقة الشرطة بالشعب، إلا أنه يظل مؤمنا بأن الشرطة يجب أن تكون في خدمة الشعب.
أما شعار "الشرطة والشعب في خدمة القانون" فيؤسس لعلاقة عكسية وبنبرة لا تخلو من التعالي والرغبة في الانتقام من الشعار القديم، ناهيك عن أنه شعار خال من المنطق القانوني السليم، فهو يقطع العلاقة المباشرة بين الشرطة والشعب ويصورهما ككائنين متساويين كلاهما خادم لكائن ثالث هو القانون، وهذا غير صحيح، فرجل الشرطة موظف عام يتبع وزارة الداخلية التي هي جزء من السلطة التنفيذية إحدى السلطات الثلاث التي من المفترض أن تخضع جميعها للشعب، وهذه السلطات الثلاث التي تشرّع القانون وتطبقه وتنفذه إنما تفعل ذلك كله باسم الشعب الذي يدفع رواتب العاملين فيها، والذي يستطيع أن يغير القانون نفسه متى صار متخلفا عن تطور الحياة، والذي له وحده الحق في اختيار من يحكمه ومن يمثله، والذي يظل صاحب السيادة الأصلي على الأرض والمؤسسات.

ده مقالي في مجلة أوراق اشتراكية عدد يوليو 2007


سيما أونطة.. هاتو فلوسنا!!
خالد الصاوي

تتكون صورتنا عن أنفسنا من عدة عناصر متفاعلة يحكمها في نهاية الأمر حجم ما حققناه من إنجاز واقعي بالقياس لما تمنينا تحقيقه سلفا، وبالمقارنة بما أنجزه الآخرون من أقراننا..
وعلى هذه الخلفية فلنتساءل: لماذا بعد أكثر من مائة عام من السينما، وبالرغم من عشرات الأفلام الممتازة، تنظر الجماهير المصرية لسينماها نظرة منخفضة التقدير إلى حد كبير؟

فباستثناء مجموعة نادرة من التحف السينمائية لقلة من صناع أفلامنا، ومع تسليمنا بأننا جميعا لم نتمكن حتى الآن من مشاهدة كل إنتاج السينما المصرية وهو واحد من عيوب منظومتنا السينمائية القاصرة، إلا أننا دائما ما نلاحظ في حدود الكم الكبير من الأفلام المتاحة وجود شيء تافه أو ساذج أو غير مدروس في الفيلم المصري.. شيء تاريخي عبرت عنه الجماهير بعبارات موحية من عينة "كلام أفلام"، "فيلم عربي"، "سيما أونطة".. ما هو هذا الشيء؟ وما حتمية وجوده؟ ولماذا هو شبيه بكل مصنوعاتنا المصرية التي لا تصمد أمام المنافسة العالمية؟ وما علاقة هذا الشيء بتكرار أزمات السينما المصرية بشكل شبه رتيب؟ ولماذا كتب على الفيلم المصري طوال تاريخه أن يكون مساحة ترفيه مكررة تحدها من الجهات الأربع محدودية الابتكار في جميع صناعاته، بدائية تسويقه محليا وخارجيا، سطوة جميع السلطات عليه، والمزيج الفريد من التبعية شبه المطلقة لليبرالية الغربية مع التشبث الرهيب بالقيم الشرقية وأهمها القمع والنفاق والعشائرية؟!

لقد غزا الفن السينمائي الوليد بلدان فرنسا ومصر وروسيا وألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة وبريطانيا في أوقات شديدة التقارب، ولكنه سار في كل منها في مسار خاص حفرته تفاعلات السياسة بالاقتصاد بالقيم الفكرية والجمالية والأخلاقية المتناحرة، وكانت له في كل منها تحدياته وصولاته وكبواته، وخلق لكل منها مجال نفوذ سينمائي إقليميا أو عالميا..

وبالرغم من الإنجازات الملفتة للسينما المصرية التي تجاوزت القرن من عمرها إلا أنها عامة سينما مأزومة إنتاجيا ومتواضعة في غالبيتها فنيا وفكريا إذا ما قورنت بالسينمات الأخرى التي ولدت معها، بل ولو قارناها بما كان يمكن أن يصيبها من مستقبل أفضل في بداياتها بفضل توافر روافد النهضة الفنية من المسرح والموسيقى، وعلى أرضية ثورة شعبية كبيرة في 1919 مهدت للبرجوازية المصرية الطريق لمشاركة الاحتلال البريطاني قضمة من كعكة الحكم والثروة، وفي إطار أكذوبة الاستقلال النسبي تحت راية الباشوات الذين رعوا تدفق رؤوس الأموال الزراعية على إنشاء الصناعات الوطنية..

والمتأمل لإعلانات الصحف في تلك المرحلة من تاريخنا ليلاحظ كيف تسولت تلك البرجوازية زبائنها بوازع الوطنية، ولم تخجل من استخدام أسماء سعد زغلول ويوسف وهبي وأم كلثوم للترويج للصابون المصري والتبغ المصري، وهكذا أيضا تم التعامل مع الفيلم المصري كسلعة مضمونة الربح طالما هي مصممة على الطراز الغربي، وتتمسح بالمصرية، ويتم حشوها بعناصر الجماهيرية المجربة سلفا، ودون أن تثير غضب السلطة السياسية أو الدينية نهائيا.. والمسألة بهذه الكيفية لا تحتاج مؤسسات عملاقة ومتشعبة.. فمكاتب إنتاج وتوزيع صغيرة وستوديوهات بدائية لقادرة على تنفيذها.. وهذا ما كان.. لقد قرر مستثمرو الفن السينمائي في مصر أن يكونوا صغارا ومهادنين وأن يكتفوا بالأسهل من الربح مقابل بذل الأقل من المغامرة.. فلم يرحبوا طبعا بمحاولات فردية هامة لصناعة الكاميرا أو الشريط السينمائي أو عمل فيلم كرتون أو تجربة مواضيع مختلفة أو تحدي أية سلطة..

وبينما كانت أفلامنا الجماهيرية الركيكة تتلمس أولى خطواتها في الثلاثينيات كانت التعبيرية الألمانية قد ظهرت وأثرت في السينما العالمية منذ عقد من الزمان، وقبلما ينفذ طلعت حرب مشروع ستوديو مصر كان الروس قد صنعوا سينما جبارة في العشرينيات رغم حصار الدول البرجوازية للثورة الروسية.. (نعم صنع ثوار روسيا الكاميرا والشريط ودور العرض الكثيرة وأبدعوا عليها مدارس فنية خالدة وسط الحصار!).. والسينما المصرية أقدم من السينما الإيطالية ولكنها لم تبلور اتجاها فنيا عالميا على غرار ما قدمته الواقعية الإيطالية في الخمسينيات من القرن العشرين، أو الموجة الجديدة في فرنسا الستينيات، ناهيك عن البون الشاسع بين صناعة السينما في مصر ومثيلتها في أمريكا وبريطانيا، حتى وصل الأمر إلى أن تجاوزتنا تباعا سينمات أخرى ظهرت للوجود بعدنا مثل السينما الهندية والصينية والإيرانية مؤخرا.. فهل يمكن فصل تلك الحقائق عن الحقائق الأعمق: أننا رغم مئوية السينما عندنا لم نتمكن من صناعة الكاميرا ولا أي جزء من مكوناتها ولا حتى شريط السليولويد رغم المحاولات الفردية لمحمد بيومي وأوهان مثلا والتي لم تلق أية رعاية لغياب المؤسسسات السينمائية العملاقة التي تبني الأساس المادي اللازم لصناعة السينما؟؟

فتلك البرجوازية الوليدة المهجنة من الملاك الزراعيين والصناعيين، والتابعة للغرب رغم تنافسها معه على استغلال جماهيرها، والتي يتناقض داخلها الغلاف الليبرالي المتفرنج بفلسفة وآليات القمع الشرقية المتوارثة عبر القرون، والتي رضيت بنصيب متدنٍ من مستوى الإنتاج والتسويق والخدمات والربحية قبالة التفوق الغربي.. إنما هي المسئولة الأولى عن تحجيم الفيلم المصري بشكل لا يمكن فصله عن مجمل محدودية إنجازات البرجوازية المصرية سواء في مجال التصنيع أو التحديث أو الابتكار أو التنمية الذاتية، وهو الانعكاس المنطقي لخياناتها الاجتماعية المتتالية لأمة من الفقراء والمضطهَدين تكافح منذ مطلع القرن التاسع عشر من أجل استقلالها الكامل ونهضتها الشاملة وصولا للتحرر الحقيقي والعدل الاجتماعي.

إن أغلب الأقلام التي تؤرخ للسينما عامة -وللسينما المصرية بخاصة- هي أقلام واقعة تحت سيطرة الفكر البرجوازي، ولهذا نجدها تركز على الجانب الفني لتاريخ السينما فاصلة إياه عن مجمل العلاقات الإنتاجية التي يتحصل عنها، وكأن الفيلم يخرج للنور من العدم لا تحكمه شروط عديدة حسمت على مدار السنوات سقف التوقعات بشأنه.. ولكن الحقيقة الغائبة هي أن جميع إنجازات السينما المصرية تعود لأجرائها من الفنانين والفنيين أبناء الطبقة الوسطى رغم تواضع أغلب هذه الإنجازات، بينما جميع أزمات السينما المصرية راجعة للبرجوازية المنتجة والمسوقة للسينما رغم تجاوزها لتلك الأزمات تباعا.. فالمشكلة هيكلية بالأساس.. نمط الإنتاج السينمائي نفسه -بما يحتويه من مختلف آليات استثمار الفيلم- هو نمط هجين ومرفه وغير صدامي وخصي في بلاط الاستبداد والإمبريالية تماما مثل البرجوازية التي تمتلكه وتديره، أما الفنانون والفنيون من أبناء الطبقة الوسطى فهم من منح هذا الفن حق الحياة بكل ما فيها من تناقضات.

لقد انهارت برجوازية الباشوات على أيدي سلطة يوليو 1952 والتي استندت لقاعدة اجتماعية شابة وقتها هي الطبقة الوسطى –الأفنديات سابقا- ولكن السينما سارت في المسار الذي حفرته خلاصات تجاربها السابقة في إطار فلسفة "اضرب واجر" والتي تبنتها برجوازية الباشوات وأورثتها لبرجوازية دولة العسكر فيما بعد والتي عبرت عن نفسها بوضوح متصاعد بعد نكسة 1967 تلك التي أنهت رسميا مشروع الطبقة الوسطى الناصري للتنمية المستقلة ومواجهة الإمبريالية وأحلت محله مشروع برجوازية مصرية جديدة تعمل تحت جناح الإمبريالية..

ومن سمات البرجوازية المصرية الفقدان المنظم لما تكسبه اعتباطا.. فبالرغم من نمطيته البالغة ومحدودية آفاقه الفكرية، إلا أن الفيلم المصري كان حسن الحظ عربيا حتى صار يشكل ثاني دخل للاقتصاد المصري، كان سفيرا فوق العادة للأمة المصرية في ربوع العالم العربي وحتى اندونيسيا، إلى أن فقد تلك المكانة تدريجيا لسبب جوهري في نمط إنتاجه التجميعي –التلفيقي بالأحرى- والقائم على تكرار المأمون وتجنب المغامرة، فقصة الفيلم لا تأتي من التربة المصرية إلا نادرا، وطرز النجوم مستوردة من هوليوود منذ الثلاثينيات، وكلما شئنا إظهار التميز في عنصر من عناصر الفيلم لجأنا للغرب كما هو حادث الآن على مستوى مشاهد الحركة أو طبع الفيلم مثلا.. من الغرب إذن أخذ الفيلم المصري الكاميرا والشريط السينمائي والمعامل والكمبيوترات والأفكار، ومن الشرق أخذ أدوات القمع والفوضى والعشائرية.. وبعد عشرات السنين من تدخل الدولة في الساحة السينمائية لا نجد إلا الآثار البيروقراطية فقط.

السينما عمل جماعي مركب ومكلف، وتدور حول حلقة إنتاج الفيلم حلقات كثيرة تسبق وتتلو صناعة الفيلم، وإذا كنا نتخيل أي تطور للسينما المصرية فلابد وأن نرى ذلك في سياق عملية ديناميكة تربط الفن المدرسي بالجامعي بالأكاديمي المتخصص بمساحات التعبير المتاحة بآفاق استثمار الفيلم داخليا وخارجيا، السينما فن مؤسسات.. ومؤسساتنا "البرجوازية" قاصرة..

تأمل مثلا تلك العبارات المتداولة في البرامج التلفزيونية وفي الحوارات الصحفية والتي تؤكد على أن هناك أزمة نص أو أزمة ابداع في المخرجين الشبان أو ندرة الموهوبين في التمثيل، بينما المتابع بجدية للشباب المغمور هنا وهناك لابد وأن يستنتج أن الأزمة لم تكن أبدا في طاقة الإبداع في شعبنا المتذوق للفنون بل في الكيفية التي يتم بها استكشاف المواهب الشابة وتنميتها وفتح الطريق أمامها للعطاء الفني.. ليست لدينا مؤسسات حقيقية تضخ الدماء في شرايين المهنة!

هناك شباب قادر على الإبداع من الإسكندرية لأسوان ولا تنقصه إلا الفرص المناسبة.. تلك الفرص التي يستحيل أن توجد في منظومة استثمار الفنون عامة -والفن السينمائي بخاصة- بالكيفية التي وصلنا إليها عبر قرن من حكم البرجوازية الرثة سواء تحت حكم الباشاوات أو العسكر أو رجال الأعمال.. وبعد تجاربنا السيئة مع التأميم البيروقراطي للميدانين الثقافي والإعلامي وما صاحبه من نمو قطاع خاص ركيك وطفيلي بالفعل يستسهل التربح من تكرار نجاحاته واستحلاب مواضيعه.. وقد أدى هذان القطاعان –البيروقراطي والطفيلي- إلى أن أصبح أغلب الفن الرائج بالذات مصمما على شاكلة واحدة هي السلعة الترفيهية البحتة المجردة من الهموم والتحديات الواقعية إلا فيما ندر..

وبالرغم من وجود طوابير من أروع فناني الشرق الفرديين في مصر الا أن السينما كعمل جماعي مخطط هي شيء آخر.. شيء يخلقه ويتحكم فيه مستثمروه أكثر بكثير من مبدعيه.. ونحن في مصر لم نر مستثمري السينما يفتحون أسواقا عالمية أو حتى يخلقوا منها عادة عائلية مستديمة بأن يقيموا في كل حي دار عرض مناسبة وهو أضعف الايمان..

إن هزال البرجوازية المصرية منذ نشأتها وللآن منعكس بلا شك على هزال مستثمري الفن السينمائي طيلة المائة عام سينما، وباستثناء عدد قليل جدا من المنتجين المحترمين تبدو الصورة قاتمة للغاية.. وإن شئت فلتتأمل حال غرفة صناعة السينما والتي هي تجمع لمستثمري الفن السينمائي في مصر تحت إشراف الدولة.. إلا أن ان اسمها أكبر من حجمها للأسف!

وإحقاقا للحق أيضا.. فإن الإنجاز الحقيقي للسينما المصرية لا يعود للفنانين المصريين فقط، بل يعود أيضا للفنيين وعمال السينما الذين ظلوا يغزلون برجل حمار طوال مائة عام من محدودية التحديث بل والتراجع المزمن وبساعات تشغيل طويلة وأجور محدودة.

لحسن الحظ أن مرت بنا عبقريات نادرة كصلاح أبو سيف ويوسف شاهين وغيرهما ولكن هذه العبقريات الإبداعية لم تصادف ما تستحقه من عبقريات استثمارية لا قبل 52 ولا بعدها.. لا في القطاع الخاص ولا في القطاع الحكومي.. ناهيك عن الجهاز البوليسي السخيف المخصص للرقابة على الابداع والذي لا نفهم سببا لوجوده مع تاريخنا الطويل من الأفلام المنحطة إلا لحماية النظام السياسي من النقد، ولولا هذا كله لكانت لدينا سينما عالمية ومجيدة بحق..

حين دخلت السينما في كبوة النصف الأول من التسعينيات هل هب لنجدتها أحد؟ لا أحد.. لا الدولة ولا كبار النجوم ولا غرفة صناعة السينما.. وقبل ذلك.. حين كانت أفلامنا تسرق في العالم العربي والغربي على السواء هل تصدى للدفاع عنها البرلمان بتشريعاته أم اقتصر دوره كالعادة على تقديم الاستجوابات الغريبة لبعض الأفلام؟! وحين راجت السينما مرة أخرى بفعل الحضور الجماهيري الشبابي واحتاجت من أجل تطوير أرباحها لتقديم صوت وصورة أفضل وأفلام حركة وما الى ذلك فهل كانت مؤسساتنا السينمائية جاهزة للقيام بهذا الدور أم اضطررنا للسفر للخارج أو لاستجلاب الأجانب –ولو من جنوب افريقيا بالمناسبة- كلما أردنا فعل أي شيء متطور دون أن نبني على هذه التجارب للاستفادة منها مستقبلا؟؟ أين المعامل؟ أين المعاهد؟ أين الحرف المحيطة بصناعة الفيلم؟ أين مراكز الأبحاث التي يستقي منها الفيلم بياناته ومعلوماته؟ أين دور العرض الشعبية.. أم أن الاكتفاء بأرباح شاشات المولات يغني عن تطوير قاعدة المشاهدة؟! ومعهد السينما ماذا كان يفعل قبالة موجة سينما المقاولات في الثمانينيات؟ هل كان يعمل بجد لتخريج جيل جديد من المبدعين الذين سيتجاوزون ذلك المأزق أم على توظيف أبناء الوسايط وغلق السوق على عدد محدود من المتعيشين على صناعة الافلام؟؟ أين كل تلك المؤسسات الغائبة؟ وبمعنى أوضح.. أين إنجازات برجوازية السينما إذا استثنينا منها قدرتها الفائقة على تكوين الأرباح دون تطوير المهنة؟؟

إن متابعة التجارب المتميزة في ساحة السينما الموازية والتي توجد في الهامش الإعلامي شبه المظلم لابد وأن تؤكد لنا أن في مصر مبدعين، ولكن ليس في مصر مؤسسات سينمائية قادرة على اكتشاف الإبداع وتطويره.. وإن بحثنا عن سينما تليق بنا وبتراثنا هو بحث عادل، ولكن تصورنا أن يأتي الحل من نفس نمط الاستثمار المأزوم هو الهذيان بعينه.. فلكي ننهض بالسينما لابد أولا من توفير عناصر أساسية سياسية واقتصادية وتشريعية وإعلامية لا يمكن انتظارها من البرجوازية وإلا لأجرتها وحدها لمعالجة أزمات السينما المتكررة والمتحصلة عن ضعفها الهيكلي محليا وخارجيا، ولابد ثانيا من تدمير أجهزة محددة أو استبدالها بأخرى عكسية وهو ما يستحيل على الطبقة الحاكمة عمله بشكل جذري لأنها أجهزة من صنعها ومصممة لحمايتها اقتصاديا وسياسيا.. وهذه الرؤية المتكاملة في تقديري هي ما يميز الثوريين عن الإصلاحيين..

فالإصلاحيون واقعون شاؤا أم أبوا تحت جناح البرجوازية وبرون العالم من منظارها الضيق، ولهذا فهم يحبذون التغيير البطيء التدريجي من جهة، ولا يريدون أن يمسوا جوهر العلاقات الاجتماعية فيما يخص الملكية -وسلطة الملاّك بالتالي- من جهة أخرى، وينعكس هذا على تعريفهم لأزمة السينما بطبيعة الحال وعلى تصورهم للحلول.. والنتيجة المنطقية لمجمل رؤيتهم هي ثبات النظام السياسي ولو تغير شكله تدريجيا، واستمرار النمط الإنتاجي ولو تغيرت اتجاهاته بسرعة.. وعلى الصعيد السينمائي يعني هذا توجيه الاستثمارات صوب الاحتكار وإجراء إصلاحات شكلية على الفيلم والمهنة ككل، ولكن تجاه الأمور الجذرية ستبقى الحدود البرجوازية نفسها ضد التطور الكامل والخلاق للفيلم المصري..

هناك فارق أسطوري بين مشروع الإصلاحيين لتطوير السينما المصرية من أجل مراكمة الأرباح في أرصدة حفنة من المستثمرين الراغبين في التنسيق مع الإمبريالية لا سحقها، وبين الرؤية الثورية التي تربط تقدم الفنون والعلوم بسيطرة الأجراء على وسائل الإنتاج في المجتمع.. وهو ما يعني إطلاق كافة حريات التعبير والإبداع وتملّك الأجراء لآيات الثروة -وللقرار السياسي بالتالي- والدعم الكامل للعلم والثقافة والفنون ومحو البطالة ومواجهة المشروع الإمبريالي للعولمة الرأسمالية.. هنا فقط لن توجد رقابة على الإبداع، ولا اغتراب للمبدع، ولا استعباد لأجراء المهنة، وسيمكن اكتشاف المواهب وتنميتها على نطاق واسع، وتثقيف الجماهير فنيا، وسينفتح الطريق أمام الإعلام الحر والنقد العلمي، وتذوب الفوارق بين الفيلم التجاري والفيلم المهمش رغم فنياته العالية، ويتمكن كل مبدع من طرح رؤاه التي يؤمن بها واثقا أن كل فيلم سينادي جمهوره بعيدا عن مؤامرات أرباب السوق، كما سيمكن توجيه الإنفاقات صوب مشاريع سينمائية جبارة بعدما يتحرر الفيلم من اللجام البرجوازي الخانق الذي لا يعبد إلا الربح.. وهذا التصور ليس يوتوبيا مستحيلة، بل هو بعينه ما حققه فعليا انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا 1917 من إنجازات سينمائية خالدة بينما أعاق تحققه في مصر إحباط الثورة الشعبية في 1919 وسيطرة البرجوازية –لا الأجراء- على آلة الدولة.. في الحدود التي يسمح بها الاحتلال.

Monday, July 23, 2007

محمود سليمان

استفاد محمود سليمان خريج المعهد العالي للسينما عام 1994 من خلفيته القصصية، فقد انعكس قلمه المكثف ورؤيته الإيحائية وغزله للمعاني بأسلوب رمزي متعدد الأبعاد على فيلميه القصيرين الجميلين "النهارده 30 نوفمبر" و" أزرق وأحمر".

ففي "النهارده 30 نوفمبر" يقدم محمود سليمان شابا مصريا منعزلا يعيش في عوامة ويكتب رسالته الأخيرة حيث قرر الانتحار في هذا التاريخ المميز بالنسبة له متمنيا أن ينجح هذه المرة فيما فشل فيه في الأعوام السابقة.
ورغم أننا أمام شاب مقبل على الانتحار إلا أننا لا نرى أي أسى أو تردد في كلامه، بالعكس، هو يبدو متفائلا ومقبلا على الموت بما يوحي لنا بأن الحياة التي نحياها أحط من الموت بكثير، وهو المعنى المتردد على مدار هذا الفيلم القصير الذي يخطفك من أول لحظة.
وفي نفس الرسالة يوجه الشاب المنتحر كلمة للضابط الذي سيعاين جثته مؤكدا عليه أنها ليست جريمة قتل وليست بالتالي مدعاة للترقي والحصول على دبورة كما يقول هذا الشاب الذي لعب دوره بسلاسة وإتقان الفنان باسم سمرة.
ينطلق الشاب إلى الشارع بحثا عن أسلوب انتحاره في جو مرح للغاية لا أثر فيه لأية مأساة لنقع في سلسلة من مواقف العبث المصري من فوضى الشارع لجنون الحياة داخل الميكروباص، وإذ يستقر الشاب على الانتحار تحت عجلات المترو، يمسك به العسكري على شريط المترو ويقتاده للضابط الذي لا يعنيه إلا رؤية البطاقة ثم يصرفه، فيختار الشاب عمارة ليقفز من فوقها ولكنه يقابل عبثا جديدا حيث لا يجد شاب آخر وفتاته مكانا خاصا يحتويهما بفقرهما إلا المصعد الذي يوقفه البواب ممسكا بالثلاثة شاكيا من أن جميع الشباب يستغلون مصعد عمارته لذات السبب!
وبعد أن يعطي البطل للشاب الآخر وفتاته مفتاح عوامته ينطلق إلى عرض النيل على مركب بمجداف بينما المراكبي العجوز يستحلفه ألا يقدم على الانتحار إذا لم يكن لديه كيس بلاستيك متين يحفظ فيه بطاقته من الماء حتى لا يقبضوا على المراكبي كما حدث معه مرارا! والمدهش أن كل هذا يتم بأسلوب شاعري ولكن بشكل عادي جدا وكأن المشاعر كلها تحجرت ونضبت الحياة ولم يعد هناك مجال لأن يشتهيها حتى الشباب.
وفي لحظة رائعة يتمشى البطل على الكوبري وقد اشترى كيس بقسماط لكي يستخدم الكيس في تغليف البطاقة قبل القفز للماء من الكوبري، فيلتقي صدفة بنفس الضابط الذي سبق أن أفرج عنه، وهنا نراه ضابطا شاردا ومهموما، وحين يعرض عليه الشاب بعض البقسماط تلمع عينا الضابط طلبا للكيس.. أي طلبا للانتحار هو الآخر!!
ويعود الشاب لعوامته التي منحها للشاب الآخر وفتاته، ونشعر بمرور زمن حيث صار لهما طفل يحمل نفس اسم البطل الذي يكرر محاولته في عام آخر وقد تركنا في حيرة ممزوجة بالدهشة لتعدد الاحتمالات وقوة الإيحاء معا والتي خلفها مزج الحنين بالمرارة وتغليف حب الحياة بالرغبة الظاهرية في فراقها.
الفيلم 35 مللي من إنتاج المركز القومي للسينما عام 2005 وقد حصد عدة جوائز هامة منها جائزة لجنة التحكيم في المهرجان القومي للسينما المصرية، وجائزة الفيلم القصير في مهرجان اتحاد الإذاعة والتلفزيون، وجائزة محمد شبل للأفلام القصيرة، والجائزة البرونزية في مهرجان قرطاج، وجائزة جيرهارد ليمان في مهرجان لوكارنو بسويسرا إضافة لجائزة أحسن ممثل في مهرجان طنجة.
-------------
وفي العام التالي اتجهت فكرة الفيلم القصير "أزرق وأحمر" بمحمود سليمان إلى السينما المستقلة عبر فيلم ديجيتال قليل التكلفة ولكن شديد التكثيف والبراعة قام محمود بإنتاجه طمعا في المزيد من الحرية سواء في مواجهة محدودية وبيروقراطية إنتاج وتسويق السينما القصيرة في مصر أو في مواجهة مؤسسات الرقابة الشاملة على الإبداع.
فالأزرق والأحمر هنا هما لونا نتيجة اختبار الحمل، وبطلانا شاب –هو بطل محمود المفضل باسم سمرة- وشابة متميزة أتت بجهدها ووعيها من تيار المسرح الحر إلى ميدان السينما المستقلة هي الفنانة ريم سيد حجاب، ومكان الأحداث هو حجرة واحدة لا نبرحها مطلقا هي حجرة هذا الشاب الأعزب الذي يقع مع حبيبته فيما يقع فيه عدد كبير من شباب جيلهما المضطرب.. الحمل دون زواج.
النافذة الوحيدة المفتوحة على العالم خارج الغرفة هي سماعة الهاتف التي تنقل لنا أصوات أصدقائهما ما بين ناصح ولائم ونهاز فرص، وأم الفتاة التي تداري عن زوجها غياب ابنتها بينما الشابان يخدعانها بتشغيل شريط يحمل صوت الشارع حتى لا تشك الأم في أن ابنتها في مكان خاص، وموظفة جهاز تنظيم الأسرة التي لا تأبه لأي شيء مطلقا.
وبالفعل ينجح محمود في نقل إحساس التوتر لنا ولكنه يفعل ذلك بأسلوبه الرشيق الذي لا يسمح للأحزان أن تستولي على اللحظة مطلقا بل هو يلهو بالمأساة –كما فعل في فيلمه السابق- وكأنه يقول لنا (نعم نحن نعيش حياة سخيفة ومؤلمة، ولكن ذرف الدموع لن يغيرها.. دعونا أولا نتحدث بصراحة عن حياتنا هذه).
وبعد وصلة التوتر هذه وما صاحبها من تخيل للمستقبل وتكشف لكمية الضعف والمهانة التي يعيشها شباب غير قادر على تكوين حياة طبيعية حرة ومحترمة معا، تأتي نتيجة اختبار الحمل سلبية، لننعم مع الشابين بإحساس الراحة بعد قلق، وإن لازمنا إحساس المرارة بعد انتهاء هذا الفيلم الكبسولة.
الفيلم إنتاج نوفمبر 2006 وقد حصل حتى الآن على جائزة الفيلم القصير في مهرجان أولترنتيف برومانيا والجائزة الكبرى لمهرجان تيرانا بألبانيا.
--------
محمود سليمان واحد من شباب كثيرين قادرين على ضخ دماء جديدة وجريئة للسينما المصرية، وهو واحد من عشرات الأمثلة الواقعية على أن الأزمة لا توجد في الشباب ولا في النصوص، بل تكمن -وأكررها دون كلل أو ملل- في أسلوب اكتشاف وتنمية وتسويق مواهبنا.. فهي ليست أزمة مبدعين ولا أزمة جمهور، بل هي أزمة إدارة بالأساس.

Friday, July 13, 2007

نهار وليل

لا يريد إسلام العزازي (خريج معهد السينما عام 1993) من فيلمه القصير نهار وليل (إنتاج شركة سمات -السينمائيون المستقلون- عام 2006) أن يلهيك عن بؤسك، بل يمد إصبعه لينغز الجرح في الصميم مراهنا على عنصرين رابحين دائما: الصدق الشديد وإنعاش العين كمقدمة لإنعاش الروح.

باسم سمرة وهند صبري شاب وخطيبته هامشيان من قاع الإسكندرية، يمران بيوم طويل جدا يبدأ بانتهاء الفرح الذي يحضرانه (لاحظ إيحاء البداية) وينتهي في الصبح التالي وقد خسر الشاب 2000 جنيه هي في هذه اللحظة كل حياته!

نعم هذا ما يعيشه ملايين الناس.. شاب يركّب خطيبته التاكسي بعد حضورهما فرحا.. الفتاة تودعه: (عقبالنا) فيرد مهموما (يا رب!).. ينخرط في غابة الشارع حيث الفقر واللاإنسانية.. يلتقي بالمقاول الذي يقلب له بقالة والده القديمة لمحل ملابس رجالي بأقل التكاليف.. الشاب ربط مصيره بهذا المشروع بعدما كان له عمل مضطرب بالميناء عرضه لمساءلة الشرطة.. وهو الآن يريد عملا شريفا وحياة محترمة كملايين الفقراء المكافحين.. أخو الشاب من الجامعيين الذين يهرب الكثيرون منهم من التزاماتهم تجاه أهلهم في الأقاليم بل ويتحولون لعالة عليهم.. يجب إنهاء هذه المقاولة في خلال أيام لأن على الشاب الاستفادة من موسم العيد القادم وقد استدان وحرر شيكات وخلافه.. الصنايعية آخر غلب وآخر استهبال معا.. وهم كالعديد من الهامشيين يتلصصون الطريق لبيوتهم لأنهم بلا بطاقات أو متهربين من الخدمة العسكرية.. تاجر الخشب الملتوي أخّر تشطيب المحل.. الشاب يسترد منه بعد عناء مبلغ 2000 جنيه ستتمحور حولها حياة بطلنا.

يحيطك العزازي بتفاصيل هذا العالم الفقير مازجا بين التسجيلية والتعبيرية، الأحداث والحوار عادية جدا ثم يبزغ فجأة شيء غير عادي يجعلك تنظر للشيء المألوف نظرة جديدة، وكأنك إذ تعيد اكتشاف أقل الأشياء أهمية وجاذبية إنما تعيد اكتشاف الحياة كلها، اللقطات الكبيرة تجبرك على تأمل أدق الأشياء بعين جديدة، بينما تخلق اللقطات الواسعة جدلا فوريا بين الشخصية ومحيطها البائس.

ننطلق مع البطل لأحراش الشارع مرة أخرى ليقذف به الحنين الجارف للطفولة إلى نعيم مطبخ الأم التي كانت تطعمه بحنان يديها في البيت المتواضع النظيف.. الخطيبة تحاور نفسها في صمت بينما تتمشط وكأن نصفها القنوع المتفائل يتعارك مع نصفها البائس اليائس.. الشاب في المحل يداعب نملة بحبات السكر وقطرات الماء وكأنه يتأمل نفسه الحائرة بين مغريات الجياة ومصاعبها.. تأتيه خطيبته فيدخلان في حوار عادي جدا حول الستائر ثم من تحت السطح الهاديء يتفجر الماضي بسبب خطاب ورد من أخيه –المثقف الهارب- والذي نعرف الآن أنه كان الحب الأول لخطيبته.. يصلان للحافة: (انت خطبتني ليه؟) فيرد ثائرا: (لو مش عاجبك نفسخ الخطوبة حالا!!).. يغلبهما الحب ويتلامسان فتبعده فورا فيصرخ: (إيه خايفة من إيه؟) فتنهره: (ليه إنت مش خايف عليا ولا ايه؟!) فيرد يائسا نادما: (أنا لا خايف عليك ولا عليا.. أهو الواحد خايف وخلاص!!).

يركّبها التاكسي ويعود في ظلام الليل سيرا فتحتك به مجموعة أوباش وتسرق منه الألفين جنيه بعد أن تضربه.. ليشرق عليه الصبح في حديقة عامة يطبب له جراح رأسه وروحه أحد الذين يفترشون الشارع.. ووسط كل هذا الجحيم يقبل صاحبنا كوب الشاي بالحليب من ذلك الرجل ليجد نفسه منساقا لأن يمد ساقيه ويرتشف لحظة طفولية متأملا بهجة شمس الصباح بينما عيناه مغرورقتان بالمهانة ولكن مبتسمتان بالأمل في لقطة ختامية رائعة من الجميع.. من المخرج-المؤلف، والبطل، والموسيقيين محمود رفعت وتامر عطا الله، ومديرة التصوير المرهفة نانسي عبد الفتاح وبقية زملائهم الذين ساهموا في التقاط لحظة مشحونة في حياة الشاب المصري الغلبان الذي يتعارك مع الحياة يوميا.