Sunday, February 25, 2007

يوم الحد الجاى

" لازم تفهموا يا جدعان ان العيال الصيع دى مش حتسيبنا فى حالنا، ماحدش يقولى خايف، محدش ينطق الكلمة دى، خايف من ايه يابنى انت وهو؟ دول صيع صحيح لكن أى كلام، وإذا كنت راجل وتفيت فى وش أتخن من فيهم حينخ زى الجزمة القديمة، دول كلاب ولا يستاهلوا إن الواحد حتى يحطهم فى دماغه لكنهم زودوها قوى، ودى مش حتة أبوهم، لازم نقف قصادهم مرة واحدة وحتشوفوا حيبقوا زى الجزم، لازم يفهموا إننا مش عيال، أصغر من فينا عمره ستاشر سنة يعنى رجالة، وهم دايرين معاكسة وغلاسة وسفالة لازم نديهم فى وشهم يا رجالة".
أول ما خلص عمرو كلامه، بصوله كلهم، وكانوا بيجزوا على سنانهم، يمكن من الحمقة، ويمكن من الخوف، ما حدش يعرف، لكنهم اتفقوا يروحوا يدوهم علقة يوم الحد علشان هم قلوا أدبهم على نيفين أخت طارق وهى مارضيتش تقول عملولها ايه بالضبط بس كانت بتعيط جامد قوي وأول ما عمرو عرف اتجنن. " لازم نضرب الكلاب دول .. لازم نكسر دماغهم " ..
وعنها بعد ما اتفق مع الشلة على يوم الحد قابل واحد من الولاد التانيين وراح ضاربه بالقلم وقال له لو رجالة بصحيح يلموا بعض ويقابلوهم يوم الحد الجاى على ناصية المحل الجديد، لو رجالة بصحيح.
جه يوم الحد، وكان شمس قوى، حر جامد خالص، وراح عمرو الساعة اتناشر حسب الميعاد ووقف واستنى الشلتين شلته وشلتهم وهو طبعا كان محروق منهم قوى، وكان مصمم يضربهم جامد جدا علشان ضايقوا نيفين، ومش مهم انهم اكبر ولا أكتر، "الشجاعة تغلب الكثرة".
فضل مستنى شويه وكل شويه يبص فوق على الشباك اياه ، الشباك كان فاضى وفين وفين لما طلعت نيفين فى الشباك وقعدت تشاور لعمرو وتقوله حاجات مش مفهومة وشاورتله يمشى وشاورتله يطلع وهو مصمم مايمشيش وشاورلها تخش جوه بس هو كان نفسه تفضل واقفة وتتفرج عليهم وهم بيضربوهم وبعدين جت الشلة التانية، ولا واحد جه من شلته، ولا طارق جه، وهم كانوا جامدين خالص وهو مارضيش يجرى، وفضل يحاول معاهم، يحاول يحاول وكان وشه كله دم وهو بيبص على الشباك وكانت نيفين عمالة تعيط..
أنا كنت شايفها وكنت واقف بعيد شوية عمال أهوهو... أهوهو ... لكن زى ماانتى عارفه يا " لايكا " ان "اللولو" اللى زينا ما يقدروش يعملوا حاجة خالص ... وخصوصا لما يكونوا لوحديهم خالص ... خالص ...
===========
(من مجموعة يوميات خلود 1990)

الهوامش

كان شابا رائعا !!!!
كان مولعا بالقراءة الى حد بعيد ، يصرف كل وقته فى استكشاف الكتب التى كان كل كتاب مغلق فيها يشده شدا لا يقاوم كى يفتحه ويعرف ما بداخله، كل كتاب مغلق لغز ... كل كتاب مغلق قضية ، هكذا كان يفكر .
كان يقرأ منذ كان طفلا ولهذا صار مراهقا قارئا وهكذا وجد نفسه شابا يمارس القراءة بانتظام وسلاسة.. ( ولكنه فى الواقع لم يمارس غير القراءة منذ كان طفلا، ولهذا ارتبط بالقراءة اكثر فأكثر ، المهم... المهم..) التحق بكلية الحقوق.. بدأت دراسة القانون تثير حماسته وفضوله ، وفى احدى الأمسيات الباردة من شهرديسمبر كان يدرس مادة تاريخ القانون التى أشعلت فى نفسه الرغبة لمعرفتها أكثر فأكثر ..
انتبه الى شىء لم يكن يقرؤه من قبل فى أى كتاب بل كان لا يفكر فى المرور به مطلقا انه الهامش أسفل الكتاب .
اكتشف أن هذا الهامش مهم للغاية ، للغاية ، لقد وجد أن هناك مراجع يمكنه بها الاستزادة من التعرف على المادة ، كف عن الدراسة وعكف على افراغ كافة الهوامش من كتاب تاريخ القانون فى دفتر على أمل أن يقرأ هذه الكتب فيما بعد .
صارت عادة لديه ان يوجه عينيه الى الهوامش أولا بأول، كانت أحيانا تقابله فى الهوامش أشياء تثير أعصابه من عينة " المرجع المذكور آنفا " ، او التواريخ الكثيرة والارقام التى تملأ الهامش او كلمات المؤلف الجانبية .
هو لا ير يد مثل هذه الجمل الاعتراضية هو يريد الكتب فحسب يريد عناوين الكتب فى الهامش لكى يعرف اكثر عن نفس الموضوع .. انها متعة !!
بدأ اهتمامه بالهامش يتزايد عاما بعد عام ، حين أنهى دراسته الحقوقية صار يمتلك سبعة دفاتر كاملة ملأى بعناوين مراجع محلية ، أجنبية فى مختلف فروع القانون ، الاقتصاد والتاريخ والاجتماع و ... و ... و ... ( المواضيع تتشابك ) وكان قد قرأ بعضا منها ولازال أغلبها مقيدا كعناوين فى "دفتر الهوامش" كما كان يسميه ( المواضيع تنبع من الموضوع الواحد تتفرع وتتشابك تتباعد وتتلاصق تصير شجرة المواضيع كبيرة كبيرة ).
أراد استكمال الدراسة ، عليه الآن الحصول على دبلومين يوازيان درجة الماجستير، ولذلك، فقد قرر فى هذه الفترة – من بعد ان كابد مصاعب كثيرة بخصوص مسألة كثرة المراجع بين يديه- قرر ان يكتفى بالقليل من المراجع حتى يتمكن من الانجاز فى الوقت المتاح ( حسبما نصحوه !) .
بدأ يعانى من أنه كثيرا ما يضبط عينيه تتسللان من أعلى الصفحات بمجرد قلبها الى الهوامش ( رغما عنه وعنها ) كان يصرف فى اليوم الواحد حوالى 15 ساعة فى القراءة .. استقر فى المنزل ( طبعا ) صرف النظر عن التمرين فى مكتب محاماة لقد اكتشف رسالته ! لن يكون محاميا جيدا فهو يشعر فى نفسه مشروع فقيه قانونى متميز .
اقترب موعد الامتحان ، بدأ يعانى من عدم التركيز ... فهو يركز بداية فى المادة ثم يركز فى منع نفسه من النزول الى الهامش وتدوين مراجعه ، ثم يركز فى صرف انتباهه عن الهامش ، ثم فى عدم الانصياع لقرار تدوين المراجع ، ثم فى تأجيل القرار إلى أن ينتهى من تفريغ هذا الهامش فقط !!
هذه هى الفعلة الرائدة التى سيمنع بها عينيه من التجول فى أرجاء الصفحة ، ورق لاصق بلون داكن لتغطية كل الهوامش!
استراح كثيرا بعد ذلك حى انتهى الامتحان . بعد حصوله على الدبلوم ، أخرج كل الكتب المشمعة هوامشها محاولا تنحية اللاصق جانبا مما أفسد ورق الكتب كليا ، ولذلك كان عليه ان يشترى من جديد كل الكتب التى عكف على دراستها فى العام الذى انتهى ليمارس هوايته من جديد ... تفريغ الهوامش .
مده والده بمبلغ ضخم لكى يتزوج ، ولكنه لم يتزوج فى الحقيقة لقد كانت فى ذهنه فكرة ثانية.. يجب شراء كافة المراجع المدونة فى دفاتر الهوامش .
استطاع بالفعل الحصول على 80% من الكتب اللازمة ، الباقى كان كتبا أجنبية بعث الى أقاربه فى الخارج بعناوينها ( بما تبقى من المال لديه !!) زادت ساعات القراءة الى 20 ساعة يوميا ، نقص عدد ساعات النوم .
اكتشف اكتشافا مذهلا ... لا مناص من الرجوع الى المراجع التى تقبع عناوينها فى أسفل صفحات الكتب التى اشتراها حديثا ( وقد كانت من قبل مراجع ) .
عاد من جديد الى تفريغ الهوامش !!
لم يتمكن فى العام التالى من تكرار وضع اللاصق الذى يفسد الورق ، لكنه استطاع بعد عناء بالغ تكثيف قراءاته وحصرها فى مواد الدرس حتى حصل على الدبلوم الثانى .
بدأ يستعد لدرجة الدكتوراة كان فى منتهى السعادة وهو يشعر بأن أمامه متسعا من الوقت ليقرأ فيه كل المراجع التى أحضرها والمراجع التى سوف يحضرها ، اشترى مراجع أخرى ، لم يحدد حتى تلك اللحظة موضوع رسالته .
( ألوف المواضيع تطرح مواضيع أخرى فى الرأس ... تتطاير الأفكار الأخرى فى الرأس ... تلتمّ وتتفجر مواضيع أخرى .. ) كان كل كتاب يحيله الى كتب أخرى .
أراد أن يخوض حربا مع الهوامش ، يحصر موضوعا ويتابعه فى كل مراجعه ، المراجع كثيرة كل منها يشير الى كتب اخرى كثيرة ... دائرة مغلقة .. غاية فى الاتساع !
توفى والده بعد خمس سنوات ظل يحاول فيها أن يكتب حرفا دون جدوى ، كل الوقت تبلعه القراءة ... ( 21 ساعة ونصف ) بصره يضعف وعيناه تخوران .. صار نحيفا بشكل مرعب ... عظمات وجهه برزت بفضول.. اضطر الى العمل بعد وفاة والـــده (لا مورد ) كان حزينا مع نزوله الى العمل ( لا مناص ) .
يعود ليلا فيقرأ حتى ينزل عمله فى الصباح ( ينام حين يتذكر ) ، ولكنه ما عاد يقوى على متابعة الهوامش ، صارت تستفزه تحطم أعصابه ، كل كتاب يصور فى وجهه كتابا آخر وكتابين وألف كتاب ... أين نهاية المواضيع ؟
( الموضوع ممتد فى عينيه ، لا أول له ولا آخر )
حدث حدث هام فى حياته بعد عام من العمل ، مات عمه الثرى ، ورث ثروة ضخمة الى حد ما لذا استقر من جديد فى المنزل وعاد للقراءة لرسالته ، ولمواضيعه المطروحة.
بعد ثلاث سنوات ، صارت الهوامش هدف الكتاب ، صار يشترى الكتاب ويفتحه ولا يغلقه أبدا ولكن يقفز الى أول مرجع يشير اليه الكتاب يفتح المرجع ويتابع القفز الى مرجع جديد ( يصر على تتبع الموضوع ... من أوله ! ) صارت الكتب تملأ جدران المنزل ، صار المنزل .. سريرا ومكتبا ومقعدا وكتبا !!
أصيب بداء فى عينيه منع على أثره من القراءة لفترة طويلة ، ولذلك صار يدفع بعض المال ليستأجر طالبا فقيرا يدرس القانون لكى يقرأ له ... وكان دائم التأكيد عليه على أهمية الهوامش ... وكان الطالب مطالبا بقراءة كل ما فى الهامش بعناية ... ( الولد يعانى ) ...
عاد بعد شفاء عينيه من جديد الى موضوعه القديم ( رسالة الدكتوراة ) .
لقد قرأ الكثير جدا من الكتب منذ حصل على معادل الماجستير منذ خمسة وعشرون عاما ، ولم يكتب حرفا واحدا بعد ، كان يشعر دائما ان الأمانة تقتضى منه أن يقرأ ... ويقرأ وأن يلم بكل شىء .. كل شىء .. كل شىء .
============
(من مجموعة يوميات خلود 1990)

قصــة مكنسة

هو يكتب الشعر ، له عشرون عاما يطرح أعماله الشعرية فى الأسواق ، وهو – وان كانت شهرته ضعيفة ، إلا أنه احيانا ما يكتفى بالقلة التى تعرفه ، ( أحيانا يتوقع انها ماضية الى النقصان ) يجلس فى حجرة مكتبه المتواضعة فى حيه المتواضع ، يمسك ورقة وقلما ويشرع فى الكتابة .
( نظرة جانبية )
الغرفة .. بسرعة .. مكونة من مكتب متواضع ، مكتبة من نفس اللون ترتص فوق صفوفها كتب كثيرة ، وهى كتب تعد فى نظر المثقفين ثمينة ، فراش متواضع ، لون الجدران مصفر .. تزداد صفرته وضوحا فى الأركان الثمانية ( التى يلتقى كل ركنين منها فى ركن واحد لتأخذ الغرفة فى النهاية أبعادها الأربعة .. ما علينا ) فى نقاط الالتقاء بين الجدران هذه تظهر بدايات أعشاش عنكبوتية .. الأوراق مبعثرة فوق الفراش ، مرتب بعضها ومطوي بعضها بشكل غير عمد ( وهكذا ... ) .
( انتهت النظرة الجانبية )
هو يشرع فى الكتابة .. يتردد للحظة ، يظهر على وجهه تفكير عميق ، تردد ، عدم حسم لمسألة ما ، تقطيب حاجبين ، محاولة للتذكر ، فشل فى المحاولة ، محاولة أخرى ، فشل آخر اكثر وضوحا ، نهوض وتوجه الى المكتبه المعلقة على الحائط .
( تفسير جانبى )
( تردد فى مفتتح القصيد ، بيت راوده ، وظن للحظة انه قرأه فيما قبل ، ربما كتبه من قبل ، ولما لم يتأكد لديه أحد الظنين نهض ليراجع ذلك على الطبيعة ) .
( انتهى التفسير الجانبى )
يخرج ديوان شعر ، يفتحه ، يقلب بين صفحاته ... ما هذا؟ ( قالها لنفسه .. ثمة أصوات هامسة تنبعث من مكان ما بجواره .. ما هذا ؟ ( قالها لنفسه ) شرع يبحث ويسترق السمع ... ملامحه عصبيه وحائرة ... هناك أصوات أناس تتهامس بقربه .. اللعنة .. (قالها علنا ) .. هناك أصوات تخرج من المكتبة!!
طوى الكتاب وعيناه مشدودتان الى الكتب ... أذناه كادتا ان تزداد طولا ( كناية عن شدة الانتباه) ... انها حقيقة .. الكتب تصدر أصواتا آدمية هامسة !!! ربما ازداد الهمس ارتفاعا .. وربما هو الذى كثف انتباهه فوق العادة .. المهم ان هناك الآن وضوحا فى السمع .
كانت الكتب فى بداية الأمر تفرغ ما فى جوفها من كلام .. اصوات متداخلة تتلو بيانات وتحاضر وتلقى شعرا معا ، فى اللحظات التالية ، بدأت بعض الأصوات تتمايز.. ثََمّ صوت نسائى ، صوت كهل ، أصوات صبية ، لكنات قديمة ، لهجات تطورت وصارت لغات منذ زمن ، الأصوات تتمايز أكثر فأكثر .. " أنا امرأة أيها الوغد ، لا تعاملنى هكذا " بمجرد ان التفت إلى السيدة التى صرخت فى أقصى يسار المكتبة من مسرحية ، هاجمه الصوت الآخر فى أقصى اليمين قادما من قاموس Freedom" = حرية " وتوالت الأصوات ... " لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى .... "
" لو كنا نبحث عن شىء نجهله ، فكيف نتعرف عليه ان قابلناه ..... "
" أكائن أنا أم غير كائن ؟ " . الحرية التزام ... " " .... وليس فى أن نحنى رؤوسنا لطاغية ما .. " " كان الكسندر ديمتريتش ... " " ... قردا ثم تطور عبر ...... " سقوط الحضارة يعنى ببساطة أن.. " " وإذ قال ربك للملائكة اسجدوا لأدم.." " .. وجراح يسوع المسيح.."
******
تطور الأمر فى سرعة رهيبة ، اشتبكت الأصوات وتورطت فى مناقشات حامية ، كان كارل ماركس بصوته الغليظ فى أعلى الأرفف مصطدما بجاره الغزالى ، وكان نيتشه فى أول الأرفف التى تقابلها لدى دخولك من حجرة المكتب يوبخ فى متى القابع فى انجيله فى الطابق الثاني ، وكان ثم خلاف فى الرأى واضح بين القواميس المختلفة فى ثالث رف لليسار بدأ بين قاموس اللاتينية وقاموس الانجليزية ، وازداد الأمر سوءا بتدخل القاموس الفرنسى والمعجم العربى . وظهر أن رمبو قد بدأ فى جناح الشعر الفرنسى يتلو احدى قصائده المجنونة فى حين كان بودلير يزيد صوته قوة ووضوحا كى يفسح لأشعاره المجال ، مما جعل صوت لامارتين الناعم يخرج عاليا جدا خاليا من نعومته المعتادة .
( نظرة جانبية )
عيناه ازدادتا اتساعا ، أذناه زادتا بالفعل طولا ..
( عودة )
المناقشات تحتد ، الأصوات تتداخل اكثر ، البيانات يزيد وقعها اصرارا ، القصائد تتعالى أصوات رواتها .. لا سبيل الى التناغم .. يكاد يجن ... يسمع ضحكات ساخرة .. تصدر الآراء حين ارتطامها ببعضها أصواتا غريبة .. والمفاهيم لدى تجمعها تتنافر وتتشتت .. الجمل الاستفهامية يقطعها تقرير تعطله جملة تعجبية ... عصبية الاداء ... والصوت الغليظ لدى التقائه بالصوت الحاد يصدران نشازا يحلق فى أعماق أذنيه .
بدأ الآن يدرك المسألة ( وليس بالضرورة يعقلها ) ، توجه الى أعماله التى ترتص جوار بعضها فى ركن خاص بها كتب هو عليه دون سواه من الأرفف " كتب للكاتب " ، وضع اذنه ليسمع كلامه ، لم يستطع فى البداية أن يميز صوته الخاص بسبب الازعاج الذى ينبعث من سائر أركان المكتبة ... حين كثف سمعه لم يسمع شيئا يخرج من كتبه ، كتبه هى الوحيدة التى لا تصدر صوتا .. يركز أكثر ... كتبه هى الوحيدة التى لا تصدر صوتا .
برهة / الوقت / الطويلة التى مرت بعد ذلك كانت فترة احتضار للكلمات .. أفرغت الكتب ما فى جوفها ... بدأ صوتها ضعيفا ، فمهيضا ، فخافتا ، فهامسا ، فمتحشرجا ، فمختنقا فى وداعة ، فشاحبا ، فمتعذرا سماعه.. فصمت.
ترددت فى الفراغ أعلى الحجرة الأصداء النهائية للأصوات ... ثم برهة صمت .. الآن .... تسقط الحروف من الكتب وتستلقي على الأرض فى أشكال سريالية ، نزفت كتبه حروفها مثل الأخريات .. لحظات .... ثم انطوت الكتب على ذاتها للداخل بعض الشىء ... فذبول ... فجفاف ... فرقاد ...
ينظر الى الحروف المتناثرة على أرضية الحجرة ، يشرع فى التقاطها ... القاها ممددة فى موت ... يتوجه الى مطبخه المتواضع يعود بمكنسته المتواضعه يكنس الحروف .. يكنس الحروف .. يكنس الحروف .
***
له الآن عشر سنوات ، وهو ينهض فى الصباح الباكر فى لباس نومه غير النظيف، يحك لحيته مرتين .. يمسك بالمكنسة التى ظلت ممدة بجواره على فراشه طوال الليل.. ويبدأ عمله كالمعتاد..
انه النزيل الوحيد هنا الذى يكنس المصحة كلها بارادته ، ودائما يشكو من أن بعض الحروف قد تناثرت فى الأركان هنا أوهناك.
============
(من مجموعة يوميات خلود 1990)