Friday, September 05, 2008

اليوم الذكرى الثالثة لكارثة بني سويف، وهذا ما كتبته ونشرته وقتها

محرقة المبدعين
لا أريد أن أبكي رفاق الطريق الذين سقطوا في محرقة بني سويف، لا أريد أن أنعي شباب المبدعين ولا فناني الأقاليم المظاليم، لا أريد رثاء تيار المسرح الحر الذي فقد بعض أهم رموزه ولا حركة النقد المسرحية الحديثة التي قدمت أكثر من شهيد.. لست حزينا ولكني غاضب، ولهذا لن أبكي بل سأحدد العدو القاتل وسوف أوجه اليه ما في خزنة رشاشي من طلقات.
بداية أنا لا أفرق بين من ماتوا في محرقة بني سويف ومن ماتوا في حريق قطار الصعيد من قبل، كلهم بشر لا ذنب لهم في هذه الدولة المنحطة الا الفقر.
لو كانوا أغنياء لتمتعوا بامتيازات الدرجة الأولى سواء في القطار أو في المسرح، ولكنهم فقراء ولهذا احترقوا وماتوا وهم يتعذبون، لم تؤمّن حياتهم ولم تسعفهم المطافيء ولا الاسعاف ولم تحن عليهم الأدوية والمراهم لأنهم فقراء، تراكمت المهازل المأساوية عليهم لأنهم لا سند لهم، واليكم الحكاية:
عرض مسرحي فقير في قاعة الفنون التشكيلية بقصر ثقافة بني سويف، الجميع فقراء، شباب فرقة الفيوم الذين يقدمون العرض في مهرجان نوادي المسرح، أعضاء لجنة التحكيم القاهريون، طلاب الفنون وفنانو الأقاليم القادمون لمتابعة عرض جاد مأخوذ عن نص قصة حديقة الحيوان لادوارد البي، أهالي بني سويف، موظفو القصر.. الجميع يشتركون في سمتين اثنتين: الفقر، ومحبة الابداع الزاهد في الربح.
شمعة تسقط فيحترق المكان كله، وبسبب الغياب شبه الكلي للدولة في الأقاليم –الا من الأمن المركزي طبعا- فقد لقي البشر موتا أقل من موت البهائم، ولم لا وهم –ونحن منهم- نعيش معيشة البهائم وأقل.
المهرجان "تحت رعاية" رئيس هيئة قصور الثقافة ومحافظ بني سويف، ومع ذلك فلا رعاية من أي نوع، أموال الدولة تتدفق على كبار موظفي هذه الهيئة –كالعادة- بينما مبدعوها يعيشون على الفتات، أرواح البشر مهدرة بسبب عقود من الفساد والاهمال والتمييز الطبقي السافر، ولهذا فقد سقطت الشمعة على بنزين الدولة الظالمة فاحترق الجميع.
لا طفايات، كابل التكييف عار، أنبوبة بوتاجاز، عربة اطفاء بعد 45 دقيقة بلا ماء! ثم عربة أخرى بعدها بعشر دقائق يأمر ضابطها جندي الاستكشاف بدخول المحرقة دون وجود مساعد له فيدخل ليحترق، عربتا اسعاف بعد 50 دقيقة تسعان 4 مصابين فقط وعلى الأرض حوالي 70 جثة بين محترق ميت ومحترق يحتضر، كيس واحد تتم فيه تعبئة الجثة لتلقى على أرضية السيارة ثم يعود الكيس الفارغ للتعبئة! محترقون يذهبون للمستشفى العام بالميكروباص! المستشفى فيه طبيبان أحدهما طبيب أسنان، لا مراهم تكفي، مشرحة ليس بها ثلاجة، فتيات محترقات لم يلمسهن أحد لأسباب غير مفهومة، شجار على من سيفتح خزينة الدواء المخدر متحملا المسئولية، الأهالي يشكون فيضربهم الأمن المركزي الذي يحاصر المستشفى (يومين قبل انتخابات الرئاسة)، فجأة الملاءات النظيفة تظهر والدواء كذلك، المحترقون ينقلون لمكان أنظف قليلا.. ما السر؟؟ آه .. انه وزير الصحة بصحبته الموكب الشهير! أحد الأهالي يستصرخه: لا دواء بالداخل ولا رعاية، الوزير يزجره: أنت كاذب! المحترقون ينتقلون للقاهرة ليجرعوا كأسا مريرة أخرى، أهالي يستلمون جثة خطأ!.. الى آخره من عبث أسود لا معنى له الا أنه ليس هذا وطنا للفقير.
ولنتأمل الأمر من زاوية عكسية.. شمعة تسقط في قاعة مشمولة برعاية الدولة بحق ترتادها الطبقة الحاكمة وكبار المستثمرين، أولا سيطلع للمخرج الشاب مسئول الأمن ليمنعه من استخدامها الا بعد التأكد من اشتراطات الأمان، صفارة الحريق جاهزة (غالبا)، الطفايات ملأى وجاهزة (غالبا)، المطافيء والاسعاف على تليفون، واذا حدث أن وقعت مأساة عاجلة -وهو شيء ممكن جدا حتى في هذه الأوساط لما وصلت اليه دولتنا المنحطة من انهيار كلي- فسوف تتم معالجة الأمر في المستشفى المتميز وبدواء متميز وبقرار سفر عاجل، الميتون والمصابون سيستحقون المعاش الاستثنائي والتعويض السريع والقيّم، النجوم سيضعون النظارات السوداء وسيبكون أمام الكاميرات في المستشفى، وقد يصل الأمر الى اقالة وزير، وبالتأكيد سوف نلمح طابورا من الشخصيات المرموقة يبكي ويواسي ويعد بتجاوز احتمالات مثل هذه الكارثة مستقبلا.
لقد اندلعت شرارة الغضب في أوساط الفنانين المظلومين من هذا النظام ككل، فهبت حركة كتاب وأدباء وفنانون من أجل التغيير ثائرة وتكونت حركة 5 سبتمبر للمطالبة معها بمحاكمة المسئولين والتعويض الكريم لأهالي الضحايا، وقفات احتجاجية متكررة، وزير الثقافة يناور باستقالة يرفضها رئيس الجمهورية بعد أن وقع المئات من مثقفي السلطة عريضة الدفاع عن الوزير، النقابات الفنية تغط في نوم متواطيء، الانتهازيون يصنعون من موت وعذاب رفاقنا سبوبة مستقبلية ميممين وجوههم صوب الدعم الأجنبي لمؤسسات المجتمع المدني، اهانة للأهالي على أيدي المسئولين، استيعاب غضبة طلاب الأكاديمية بواسطة جنرالات الثقافة، الايقاع بين الجميع حفاظا على الكراسي.
ماذا نفعل الآن؟ لماذا لا يجيبوننا الى أبسط المطالب وهو معاملتهم كشهداء ومصابي حرب قانونا؟ لماذا لا يحاكمون كبار المسئولين؟ لماذا يحفرون قبورنا بدم بارد؟ لماذا يهينوننا؟
ليس للفقير وطن.. ليس للفقير حرمة في عيشه ومماته، ليس له كرامة ولا أمان، ولهذا ليس للفقير الآن الا الثورة.
خالد الصاوي
سبتمبر 2005