Tuesday, February 03, 2009

مواجهة السلطة بالحقيقة-شهادة من فنان

خالد الصاوي: الحوار المتمدن- العدد 1694 في 5 نوفمبر 2006
(قرأت في مؤتمر المثقف والسلطة-كلية الآداب-جامعة القاهرة-نوفمبر 2005 في ندوة بعنوان مواجهة السلطة بالحقيقة)
اسمحولي اولا ان اقدم نفسي بالطريقة التي اريدها لا كما يقدمني الاعلام الرسمي كمجرد ممثل لعب دور جمال عبد الناصر ومصطفى امين او يلعب الآن دور صحفي من المثليين الجنسيين في عمارة يعقوبيان، انني بالقطع فخور بهذه الادوار التي كنت محظوظا لانها اسندت الي، كما انني لا اقصد القول ان جوانبي الاخرى التي ساعرضها الان اهم او اكثر ابداعا ولكنني اهدف الى ان اشير لشيئين اساسيين في هذا السياق الاول ان مشروعي الفني الذي ربطت عليه وجودي مذ كنت في العشرين من عمري مهدد ومحاصر دائما من مختلف مؤسسات السلطة سواء استمدت قوتها من القرار السياسي او من السطوة الرأسمالية على السوق والثاني ان هذه المؤسسات تستخدمني او تستبعدني انا وامثالي من الفنانين المتمردين طبقا لمعيار وحيد هو مدى الاستفادة الممكن تحقيقها منا وكأننا دجاج في مزرعة المنتجين لا هدف لنا الا انتاج البيض لهم باقل ازعاج ممكن للسلطة السياسية، وحينما انضم اليوم لقافلة الفنانين والادباء المطالبين بالتغيير فانني اصل اللحظة الحالية في حياتي بربع قرن من الحلم النضالي. لا اذكر متى بالتحديد بدأت علاقتي الحميمة بالابداع متزامنة مع توتر علاقتي بالسلطة بمفهومها العام، لقد تناميا معا بداخلي على مدار طفولتي وصباي في مسارين متوازيين ومتقاربين جدا، بحيث بدا الابداع لي دائما فرصة للتحرر المؤقت كلما اطبقت صنوف السلطات فكيها الفولاذيين علي ارادتي وخيالي حتى تحتم ان يتصادم الاثنان في شبابي المبكر.. فرأيت حقيقة القمع من زاويتي الشابة لأتورط من وقتها في مواجهة القمع والظلم الاجتماعي بالابداع الفني وبالنشاط العام ما استطعت.. وتحولت من مجرد طالب مشاغب يحب الفن ويناوش السلطة المدرسية الى متمرد يتمنى انقلاب الهرم الاجتماعي والسياسي في المجتمع برمته، وسنة بعد سنة عبر العنت والتجاهل والتعطيل والاستبعاد الذين لقيتهم في مشواري كانت تترسخ بداخلي رؤيتي لنفسي كمشروع فنان ثوري مهما تراكمت ورائي هفواتي وسقطاتي الابداعية.. اذكر انه قي شتاء 81 -وكنت وقتها طالبا مستجدا بحقوق القاهرة مرتبطا بالمسرح الجامعي ومتحمسا للتاريخ السياسي للجامعة- ان تقدمت لمسابقة الطالب المثالي بالكلية عقب حصولي على كأس أحسن شاعر وانا لم اتجاوز بعد الثامنة عشر من عمري.. كنت لا زلت ساذجا اثق في نزاهة بعض السلطات ومن بينها ادارة الكلية، وحصلت على الكأس بالفعل واحتفلت وقتها بالعالم قدر احتفائه الوليد بي مع اصدقاء جدد وحبيبة اولى وبفخر مستجد علي لم احسه طوال سني دراستي المدرسية، حتى صعدت خشبة المسرح ذات نهار مقررا ان اقرأ قصيدتي الجديدة على حضور الحفل الفني دون ان اعرض سلفا ما سأقرأ على موظفة رعاية الشباب والمختصة وقتها بترقيب النص.. كان الفخر والحب يملآني حتى توهمت الحرية.. والقيت قصيدتي المتمردة الركيكة.. كان الحماس يملؤني تجاه حبي المراهق فتنقلت بين الابيات مناوشا كل شيء حولي حتى وصلت الى عش الدبابير اذ قلت فيما معناه "سأحبك مهما حدث لي وسأناضل من اجلك عساكر السلطان.. وحتى ان قتلوني فسوف تذلهم ذكراي.."وانقلب العالم رأسا على عقب.. عوقبت الموظفة المسكينة وتم تحويلي الى التحقيق حيث نزع مني لقب الطالب المثالي وفصلت لمدة أسبوع فاعتليت المسرح مرة اخرى لأقول للحاضرين ما حدث واقرأ عليهم قصيدة أخرى بدون ترقيب صارخا ضد جميع اسياد قريش فحققوا معي ثانية ومن خلال ضابط الكلية وتواجهت "بالنسر" مباشرة فخرجت الى المسرح لأقرأ على الجميع قصيدة التحقيق واذكر منها: "الفأر يثرثر في اذني يستجوبني الفأر بنفسه يسألني عن سر مجيئي عن وطني عن املي فكري ايماني يسألني حتى عن ظني فأجبت بأني فنان يستاء الفأر ويضرب رأسي في الجدران يبحث في رأسي عن فني"!وفصلت ثانية فاندفعت الى الدراما متأثرا بانقلابات مجتمعي وقتها وكانت لحظة الانتقال من دولة السادات الى دولة مبارك متزامنة مع تعالي نجومية الليبرالية الجديدة عالميا وبدت دراما الحياة اقوى من دراما الخشبة بمراحل فبعد شهور من التحقيق معي كان الاجتياح الاسرائيلي للبنان ووجدت نفسي اصرخ"هل بعتم البلد الضئيلا وشعارنا وشعورنا والبندقية والرسولا وبكم تبيعون المدائن والكنائس والطفولة؟" ثم ضاقت القصيدة وصار المسرح بكل جنباته ساحة النضال المتاحة بعدما عجزنا عن السفر للقتال وضربنا في تظاهرة الازهر وبدأت مشكلتي مع "النسر" تتفاقم.ونشط اليسار السري في الجامعة وان بقي سريا بينما حلف الادارة والامن يوفر للجماعات الدينية غطاء ملائما بوعي او بدونه سيان، وتكتل الثلاثة ضد الابداع وحوصر المسرح فرد جيلنا بتكوين فريق مسرحي كبير ومتماسك ومتصل باليسار الفاعل ومجموعات النشاط الطلابي الاخرى وقذف بنا الى معركة الانتخابات صيانة لفريقنا وفننا وصار من المستحيل فصل الفني عن السياسي. وشاركت مع فريقي بالكتابة والتمثيل والغناء وكل ما من شأنه ضخ رسالتنا للجميع.. كنا نشتاق للحرية كما كنا نتصورها وقتها.. باحة وارفة بين جبال مصمتة ..ومع اندلاع موجة الاحتجاج الطلابية في 84 و 85 تحولت الى اليسار اكثر فاكثر.. كان اول المظاهرة يهتف بحرية الجامعة بينما آخرها يهتف بصراخ الطلبة الفقراء فانضممت لهذه الاصوات وهي بعينها التي انقذتني من فقد الاتجاه وردت علي بوصلتي الحائرة فوقفت فني على هذه الجموع المناضلة فقرا واضطهادا وعلى عالمها المسلوب ظلما وعلا صوتي فمنعت من دخول انتخابات العام التالي فعكفت على تجسيد همومي في مسرحيتي الغفير والتي كتبتها واخرجتها وشاركت في تمثيلها عام 84 مع رفيق عمري الممثل الرائع خالد صالح ومع زميلنا النجم الكوميدي محمد هنيدي وضمنتها تصوري وقتها عن علاقة المواطن الضئيل "بالنسر الكبير" او بالسلطة وانهيتها بتمرد من الجنود على قياداتهم وهو ما تحقق فعليا بعدها بعامين في هبة جنود الامن المركزي الغلابة في 86 وعرضت مسرحيتي خارج الجامعة حتى لا تعرقل ظهورها عصبة النسر وحلفها الواسع وقوبل العرض بحفاوة بالغة في اوساط مسرح الهواة وفي غفلة من الزمان عرضتها داخل الجامعة مقررا تحدي الادارة وتبنيت من وقتها ما عرفه فيما بعد زميلي الناقد الشاب نبيل بهجت "بفنون الضد" في معرض حديثه عن مسرحيتي المشاغبة اللعب في الدماغ والتي قدمتها في 2004 بعد 20 عاما من الغفير على مسرح الهناجر احدى ساحات الشد والجذب بين تيار المسرح الحر ووزارة الثقافة. وعودة للغفير اقول انها كانت التجربة التي اكتشفت بها ذاتي ومضمونها مجسدة في مشروع فني واضح في سن العشرين كؤلف مخرج ممثل يؤسس فرقة صغيرة لتكون اداة نضاله الفني والفكري ضد سلطة الماضي الباليةوصار واضحا لي بعد تخرجي انني لم اخلق لكي اكون محاميا عكس والدي الذي استوعبني بحنو حين اخبرته بعدها بعام واحد انني ساحترف الفن فوقف بجواري لسنوات طوال مؤمنا بموهبتي الفنية بينما السوق الفنية والادبية وقتها تضيق بي انا واغلب جيلي ممن راحوا يدقون رؤوسهم بمنظومة انتاجية وتسويقية وتنموية قمعية ومنحطة بشكل عام.. كان اللهاث يتعالى استعدادا لوصول جيوش العولمة الرأسمالية سياسيا واقتصاديا وعسكريا فدقت اعناق اغلب الموهوبين في جيلنا بين عصرين عصر النمط الانفتاحي وعصر نمط العولمة.فعدت للمسرح الجامعي في 89 لأقدم عرض المزاد ثم عرض الدبلة بقاعة جغرافيا التي ساهمت مع زملائي مجدي سعيد ومحمد رضوان ومحسن منصور في تحويلها لقاعة مسرحية وجاء المزاد عرضا بارانويا مثلي اصرخ فيه باقتراب شبح الحرب وابشر في ثناياه بالثورة الشاملة على التوحش الرأسمالي الذي راحت السلطة تطبل وتزمر له ليل نهار، ومنعت ادارة الكلية تعليق لافتاتي التي تنطق بعبارات العرض من عينة"بالدم لازم نتولد القمر فيه بقعة سودا بالدم بس ممكن تتمسح"وقبل انتهاء العام ومن وحي سخافات الادارة والامن في الجامعة وخارجها قدمت عرض الدبلة والذي كررت فيه تجربة الكتابة والاخراج والتمثيل للمرة الثالثة وقد وجدت اداتي التعبيرية المتكاملة، كان بطلي فنانا مهزوما مثلي وكانت النقود تظهر وتختفي في بيته كأثر لمؤامرة كونية لافقاده عقله، ثم ضاق بنا مسرح الجامعة فقررنا الخوض في مستنقعات السوق الفنية ولكنا اكتشفنا اننا واغلب جيلنا لم يعد لنا من مكان الا الهامش ندخله قهرا او طواعية، وظهر لنا حلف كبير خفي ما بين عزوة النسر ومنتجي المقاولات وتحالف قوى البيروقراط والتكنوقراط غير العامل ولا المنتج بحق وفي قمة رفضنا للتسليع اكتشفنا اننا طردنا من اكذوبة المجد الستينياتي ومن العوبة الرخاء السبعينياتي ومن اسطورة التنمية الثمانينية والقي بنا الى بالوعة التسعينيات السحيقة حيث الجيش الامريكي ومن التراب السعودي يضرب الجيش العراقي فوق التراب الكويتي بأياد وياللعجب مصرية!! وحيث سياسة الجزرة والعصا تتسيد مصر وعناقيدها السليبة وصار العالم جنونا في جنون فقدمت مسرحيتي حفلة للمجانين والتي تحتوي ثورة المرضى على جلاديهم الاطباء وكان مقررا عرضها لمدة معقولة ولكنها تحولت لعرض ليلة واحدة لتطفيء دار الاوبرا اضواءها علينا وصارت فرقتي الصغيرة -فرقة الحركة المسرحية الحرة- في الشارع مرة اخرى بينما وزارة الثقافة تدعي رعايتها لعشرات الفرق الاهلية الشابة على طريقة ادعاء الحزب الوطني رعايته لشباب مصر!وقمت باستغلال مشروع تخرجي في معهد السينما لتوجيه لكمة للنظام الذي يجتاح بيوت الفلاحين الفقراء بحثا عن القمح والارهابيين فقدمت فيلمي القصير وادي الملح من وحي شكاوى الفلاح الفصيح الذي يتعذب احفاده على مدار الاف السنوات على ايدي مختلف الملوك والملاك والكهنة وموظفي الدولة، واتبعته بفيلمين قصيرين لقناة النيل الدولية بعد تخرجي من معهد السينما هما الحب في مصر وقرية العمار دار أولهما حول مفهوم الحب بين الشارع والقصر ورصد ثانيهما حياة احدى القرى المصرية الفقيرة عبر الدورة السنوية لزراعة وبيع محصول المشمش الذي تتميز به، وقد تعلمت فيهما كيف اناور جهاز التلفزيون محاولا تمرير افكاري المتمردة بشتى الطرق في ظل رقابة صارمة في وزارة سيادية شديدة التوتر هي وزارة الاعلام.. وكنت قد تعلمت الدرس الاول في مشواري مع الاخراج التلفزيوني: قدسية الرقابة في ماسبيرو.ففور التحاقي بالعمل مخرجا بالتلفزيون رفض اول عمل لي بدعوى انه كليب شديد القسوة والفوضوية حيث اخذت احدى اغاني ثورة الشباب في 68 وولفت عليها لقطات تسجيلية معاصرة في نسق يدين الاستعمار الرأسمالي العالمي بالتزامن مع المؤتمر الدولي للسكان والتنمية الذي عقد بالقاهرة عام 94 وكان هناك استغراب عام من غبائي من قبل المدراء والزملاء على حد سواء اذ كيف تخيلت ان عملا كهذا سيذاع على شاشة تملكها عزوة النسر؟ ولولا رحابة افق الاستاذ حسن حامد رئيسي وقتها لوجدت نفسي في مشكلة تتعلق بالامن القومي في دولة تخاف القصيدة والكليب وتدشن مواقعها العسكرية حول ماسبيرو في رعب دائم من "البيان رقم 1" !!وخلال تلك المرحلة نشرت ديوانين هما بعث الخيول عام 88 ونبي بلا اتباع عام 95 اضافة الى مجموعة قصصية هي يوميات خلود عام 90 ومسرحيتي حفلة للمجانين 92 واوبريت الدرافيل 93 وجميعها تجارب نشر مريرة حتى رغم حصولي على الجوائز في التأليف المسرحي والمقدمة الرقيقة التي اهداني اياها المرحوم الدكتور يوسف ادريس مقدما بها قصصي.كانت الساحة الادبية تنويعا على نفس اللحن النشاز الذي يبرر استمرار سلطة الماضي الحديدية الصدئة سواء تجلت في استبداد النسر او تخلف واستغلالية المنظومة الانتاجية او تنامي الروح السلعية عامة، وبدا واضحا لي ان الكاتب الفقير الشاب في مصر هو مواطن مهمش بالضرورة الا فيما ندر وان الكلمة المتمردة غير مرحب بمرورها مهما تشدقت بعكس ذلك وزارات الثقافة المتتابعة وشاركت كممثل محترف في اعمال سينمائية محدودة في تلك المرحلة كان مصدر معاناتي خلالها هو التجاهل غير المخطط من قبل سلطات السوق السينمائية لجيلنا المأزوم حيث لم يكن امام الممثل الشاب حيالها الا تسول الفرصة عبر مكالمات يومية عبثية يثني فيها على عبقرية المنتج ويدلك ذاتية النجم الاوحد ويقبل قدم الجلاد فاندفعت الى الهامش املا في بناء خليتي الفنية التي اطور فيها ادائي واسلوب عملي تمهيدا ليوم افارق فيه الهامش الى المتن مدججا بالخبرة والامكانية الواقعية وبعض الجماهيرية الصغرى التي تسندني في المعركة القادمة وركزت على فرقة الحركة رغم فقرها وعزلتها من جهة وشاركت كممثل في عروض مسرح الهناجرالذي انتمي اليه وادين له بالكثير من فرصي الابداعية اللاحقة من جهة اخرى بينما الاحتكاك بيننا نحن شباب المسرح الحر وقتها وبين السلطة السياسية والثقافية يأخذ ابعادا مزعجة للطرفينكان المسرح الحر هو اداتنا الاهلية للتعبير عن ذواتنا المتمردة وكسب مساحة عمل حرمتنا منها عشوائية تخطيط وتنمية النشاط الثقافي والابداعي في بلادنا، ولكن كان للسلطة رأي آخرفلائحة التياترات تحكمنا وتتحكم في نشاطنا الفني منذ عام 1913 فلا يجوز لفنان ان يخاطب الجمهور في الشارع الا بموافقة امنية وللرقيب الحق في اعطاب العمل الفني اذا اشتبه في حساسية اطروحاته من منظور السلطات الكبرى: الحكومة والكهنة وكبار الملاك والتجار ولا تريد دولة تأميم الرأي ان تجازف بتمرير نشاط اهلي واحد بعيدا عن قبضتها مهما كانت انعزالية هذا النشاط حتى لا يتخذ كأمثولة نضالية تبني على خبراتها الجماهير في مواقع اخرى اشد حساسية واعمق تأثيرا كعنابر المصانع وساحات الجامعات وخلال تجربتي الطويلة مع المسرح الحر على مدار خمسة عشر عاما وما عانيته خلالها انا وزملائي من قوانين ولوائح وسياسات فصلت لكي ينفرد الحاكم ويستمر الكاهن ويتكسب كبار التجار ونجومهم المفضلون المتواطئون وحدهم تأكد لي ان دولتنا دولة معادية للابداع المستقل لانها دولة معادية للنشاط الاهلي الحر عامة وهي معادية للنشاط الاهلي الحر لانها معادية للاهالي انفسهم للاسفولحسن حظي ان كانت على رأس الهناجر شخصية ليبرالية استثنائية هي الدكتورة هدى وصفي التي انتجت لي ولفرقتي 3 مسرحيات خلال 7 سنوات انتهت كل منها بمواجهة بيننا للاسف -رغم علاقتنا الشخصية الرائعة- كأثر مباشر للصراع الدائر بين المسرح الحر ووزارة الثقافة او بين الاهالي والسلطة في فهم آخروقدمت عام 97 مسرحية الميلاد والتي عكست فيها ما استشعرته من تواطؤ مختلف مؤسسات القهر على الانسان الضعيف في وطننا المغدور وبشرت فيه بالنضال الجماهيري المنتظر ونجح العرض بسرعة بفضل سخريته المريرة والعميقة من رموز القمع اليومية من الاسرة الى المدرسة الى الجيش الى القضاء الى الرأسمالية الوطنية الخائنة الخ الخ وكلما شعرت بدفء الجمهور كلما سمحت للممثلين بالمزيد من الارتجال وهو الد اعداء كافة اجهزة الرقابة الفاشية.ثم اتبعته بعرض المهرجين "انطوريو وكيلوبطة!!" في العام التالي 98 حيث يفسر المهرجون قصة انطونيو وكليوبترا تفسيرا سياسيا بحتا محذرين ايانا من قطار العولمة الدموية القادم ومن حكامنا الذين تربطهم به علاقات عاطفية للغاية وشبهنا امريكا بالامبراطورية الرومانية السفاحة التي اجتاحت العالم القديم وصلبت العبيد والفلاحين ومثلت بهذا العرض مصر في مهرجان للبحر المتوسط بروما مقررا التفوق على الفريق الاسرائيلي علنا بدلا من الاختيار التقليدي السلبي في تقديري واعني به الانسحاب من امام العدو، وبالفعل حاز عرضنا على الترتيب الثاني بعد العرض الفرنسي طبقا لاراء الجمهور والنقاد فشعرت اني قدمت لبلادي شيئا ما رغم ان سلطتها ضنت علي طويلا وامعنت في تهميشي لسنوات انا ورفاق جيلي المأزوم -ولو بدون تعمد في اغلب الاحوالوفي نفس العام كنت قد اديت اكبر واهم دور سينمائي لي حتى الان في الفيلم المصري-السوري جمال عبد الناصر ولي معه قصة جريحة رغم استفادتي الكبرى من الفرصة ككل والتي اتت الي حين شاهدني المخرج امثل على خشبة الهناجروبعد ان مر المخرج بسيناريو فيلمه من انياب اللجان الرقابية المتنوعة معضوضا في اكثر من موضع بدأت المشاكل الحقيقية بتعليق سلبي على سيناريو الفيلم من اسرة عبد الناصر ثم من اسرة المشير عامر ثم تطور الامر اعلاميا يوما وراء الاخر وتحركت اياد خفية تساند الخصوم حتى انني والمخرج تعرضنا لقطع 3 لقاءات لنا على الهواء واحسسنا بالسلطة دون ان نراها، ومرة اخرى تأكد لي اننا دولة يطبق فيها القانون على الضعفاء وحدهم، تحكمها المصالح والاهواء المغرضة غالبا، ويتحكم في مصيرها الاموات من جهة والنظام الميت نفسه من جهة ثانيةكان تعامل السلطة مع فيلم جمال عبد الناصر نموذجا مصغرا من تعاملها مع قضية الانتخابات الحالية اي تزوير وبلطجة مغلفان بالمسوح الديمقراطية واعادة انتاج لصنم الاعتبارات السلطوية على حساب حرية المواطن الفنان وفنه بغض النظر عن مدى فنيته والتي تصر السلطة على احتكار معايير تقييمها من خلال مندوبيها الثقافيين والاعلاميين الذين يتطفلون على الانتاج الروحي والذهني لهذا المجتمع الفقير من مكاتبهم العتيقة المترفةوخرجت من تجربة عبد الناصر جريحا من بعض اجنحة السلطة لأقع ضحية لسموم اجنحة أخرى فالمنتجون والموزعون يستطيعون غلق السوق في وجه اي فنان ولاسباب شتى قد تتعالى لتصل الى تضامن الجميع ضد الصوت المتمرد المستوحد او تنحط لتصل الى مجرد تنافس رجلين –احدهما المنتج- على قلب امرأة، وما بينهما هو مجرد الانصراف عن الفنان لانه غير متوافق مع قواعد اللعبة او مهموم بالكمال الفني والفكري على حساب مراكمتهم للارباح المجردة من كل قيمة انسانية حقة او –وهو السبب الغالب- لان المنظومة الانتاجية نفسها قاصرة عن اكتشاف وتنمية المواهب وتسويقهاوفي حالتي فقد تم اقصائي عن الميدان السينمائي 3 سنوات دون سبب واضح كما تم استدعائي اليه مرة اخرى دون سبب مفهوم فيما يتجاوز فكرة القدرية البحتة الى العشوائية المذبذبة وغلبة المعيار الشخصي والخزعبلي على صوت المنطق الموضوعيماذا حدث يا ترى؟ لربما اخطأت مرة بحق احد المنتجين دون قصد او ربما سرت شائعة ما في السوق ضدي او ربما ذكر احد رجالات عزوة النسر اسمي البائس امام عصبة الملاك في معرض حديثه عن الفنانين المشاغبين الذين يشاركون في حركة التضامن مع الانتفاضة ومحاولة تجذيرها فعدّوه توجيها لهم باستبعادي! حقيقة لا استطيع الجزم بشيء ولكن كل ما درسته من واقع هذه التجربة السخيفة ان سلطة السوق عامة هي الطبعة الشعبية والتفصيلية من سلطة القصر وان الاخيرة تكثيف للاولى ولا انفصال بينهما، نعم ان سلطة الملاك على رقاب أجرائهم هي لب الموضوع في الحقيقة ومنها يشتق كل استبداد وكل اضطهاد وكل خضوعولكنني رفضت الخضوع واستفدت من "استراتيجية تنويع مصادر السلاح" التي تبنيتها طوال شبابي فكلما اغلق بوجهي مجال خضت آخر..وهكذا قدمت عام 2001 فيلمي التلفزيوني التجريبي الطويل "الحب مسرحية من 3 فصول!" من انتاج القنوات المتخصصة وعرضت من خلاله عدة قصص اجتماعية ساخرة في عمارة واحدة وحتى في هذا العمل ناوشت السلطة بعد ان صارت تلك النظرة هي رؤيتي الراسخة واسلوبي المميز بل ومنهاج حياتي فبدا قسم الشرطة في ذلك الفيلم سيركا منصوبا !وبالرغم من حصول الفيلم على بعض الجوائز الا ان الميزانية التي اعتمدت لفيلمي التالي عام 2002 كانت اقل من ربع ميزانيته ومع ذلك قدمت الفيلم الروائي القصير "قصر نظر" وتتبعت فيه التأثير السلبي للسلطة الأسرية والمدرسية على حياة طفلة كل ذنبها كذبة اخترعتها في الفصل كي تجلس بجوار زميلها الذي تحبه فادعت انها لا ترى من موقعها جيدا فكانت النتيجة ان اجبرت على وضع نظارة طبية سميكة على عينيها السليمتين مما هدد بصرها بالزوال التام وهز شخصيتها تماما، وحصل الفيلم على الجائزة الفضية في مهرجان الاذاعة والتلفزيون رغم ضحالة ميزانيته.وبالرغم من ذلك فقد تم تسويف مشروعي التالي "جواب لله" وفكرته مستمدة من يوميات حقيقية لطفولة انسان معذب اجبرته سلطة الفقر وسلطات القمع المختلفة على ترك تعليمه والعمل مناديا للسيارات.كانت الحياة حولي تغلي مع اقتراب قطار العولمة الوحشية من بلاد الرافدين فدعوت فرقة الحركة لاستقاء مادة مسرحيتنا الجديدة من الشارع السياسي وهكذا بدأت الاعداد لعرض "اللعب في الدماغ!!" والذي تجسدت في تجربته المرهقة ابعاد علاقتي انا وفني بالسلطة عامة من جهاز الرقابة على المسرحيات الكائن في شارع قصر العيني الى المكتب البيضاوي بالبيت الابيض في واشنطن مرورا بقصر عابدين ومعتقل القلعة والسفارة الامريكية في جاردن سيتي وما يكملهما من سلطات يجر يعضها بعضا في سلسال طويل مهمته مص دماء الانسان الضعيف وتكسير عظام الانسان المتمرد.وتم حشد الناشطين المعارضين لليلة العرض على الرقابة وفي مقدمتهم زملائي في مركز الدراسات الاشتراكية ففرضنا العرض على الرقابة لينجح بعدها نجاحا استثنائيا رغم سياسية الموضوع وخلوه من النجوم او التوابل المنحطة عكس كل حسابات اباطرة السوق، ورغم ذلك اوقفت الوزارة العرض الناجح لاعود بفرقتي الى النقطة صفر كالعادة فركزت على عملي كممثل سينمائي وتلفزيوني في هذه المرحلة اقدم رغما عني القليل جدا من امكانياتي مؤجلا الى حين مشروعي الفني المتكامل الذي لا اتنازل عته مهما جرىانني فخور بدعوتكم لي اليوم وان كان لي ان اقول شيئا اخيرا فهو ان ربع قرن من مواجهتي للسلطة بالحقيقة المرة قد كشف لي ان المعركة حقا كبيرة وطويلة النفسفاذا اردنا مواجهة السلطة بالحقيقة اليوم فانني ادعوكم لان نضع في الاعتبار ما قالته صديقتي ذات الثلاثة والعشرين ربيعا وزميلتي في جماعة 5 سبتمبر التي تأسست عقب وقوع محرقة قصر ثقافة بني سويف ردا على مقولتي انه لابد من اختيار المعركة التي نخوضها ولا يجب ان نجر اليها .. ، قالت: "بل المعركة في كل اتجاه وعلى كل الأصعدة وكلها مفروضة علينا وكلها هامة".نعم اشعر في هذه اللحظة انه موقف صحيح هو الآخر يربط بين سلطة وأخرى ومرة اخرى انصت لمن يأتي بعدي مستبشرا خيرا بمولد جيل جديد هو جيل الانتفاضة الذي اعاد شبابه الحياة الى شيوخ الناشطين جيل البطالة والاحتلال الأمريكي والغذاء المسرطن وهتك عرض الناشطات جهارا نهارا ولهذا الجيل امد يدي وادعوكم جميعا لفعل نفس الشيء كيما نصل النضالات ببعضها مبشرين ببعثنا جميعا في ملامح شباب غاضب وطموح واطفال نورانيين يولدون في زمن الحرية المكتسبة بالكفاح المرير لا بالتسول المريضقبل ان اختم كلمتي اسمحولي ان اتذكر معكم رفاق المشوار الذين التهمتهم نيران الفساد والاهمال في محرقة بني سويف حازم شحاتة وبهائي الميرغني وحسن عبده وصالح سعد وجميع من راحوا معهم على ايدي سلطة متهالكة تحرق بنيها فعليا او رمزيا سواء.