نعمات ريفية كادحة من قرية إمياي، لديها من السنوات 45 ومن الأولاد ستة، تعمل قفاصة -تصنع الأقفاص- مع زوجها من ثلاثين عاما، هي أول من يستيقظ بالبيت، توقظ زوجها هامسة لنفسها (ده احنا لو ريحنا يوم ما نلاقيش نوكل العيال)، تلتئم الأسرة حول الطبلية، الكل يأكل مما تيسر ونعمات شاردة في أغلالها ما بين تعب جسدي مستمر وفقر بيّن وقدر موجع أعطاها ولدا وبنتا من الصم والبكم (عذابي الحقيقي إني كنت بشوف زرع بطني بيدبل من حواليا).. ولكن نعمات لم تستسلم، بل أصرت على أن يتعلم أولادها وبخاصة المعوقان (الاثنين دول لازم يتعلموا.. أسيبهم لمين؟؟)..
نتابع مسيرة هذه الكتيبة من المنزل للزراعية حيث ينقسمان لمجموعتين: مجموعة الدراسة ومجموعة التقفيص.. الأولى بها محمد وإيمان –المعوقان- وأختهما سحر، والثانية مكونة من نعمات وزوجها وابنيهما أسامة وإبراهيم اللذين لم يحرزا تقدما تعليميا فاستسلما لجحيم التقفيص.
نحن الآن في الورشة، اللقطات القريبة والمتوسطة التي تميز الفيلم كله تجبرك على أن تعيش خنقة هؤلاء الناس لمدة 14 ساعة يوميا، (ده عرقنا احنا الأربعة في القفص 57 قرش!!) بينما هم يحتاجون إلى 7 جنيه يوميا لمحمد وإيمان فقط لأن مدرستهما في بنها (وأنا منبهة عليهم ماحدش يدفعلهم الأجرة ولا يستعطف بيهم)..
ننتقل لصف الصم والبكم بينما صوت نعمات الداخلي لا زال يصاحبنا، ثم ننتقل إلى ورشة التقفيص حيث تعيد المخرجة لحظة من الحياة دون أن تشعرك بأنها فارقت الأسلوب التسجيلي للفيلم.. فلأنها (مهنة متعبة والجميع تعبان منها) يترك الابن أسامة الأعواد ساخطا للحظة فتسأله نعمات (مالك يا عين أمك؟) فيجيبها (دماغي مصدعة) فترد نعمات ما بين مطرقة العوز وسندان الأمومة (قولة انك تعبان دي بتزعلني لأن أنا أم.. حعملك شاي بس اشتغل).
الوحيدة التي لم نرها من الأبناء حتى الآن هي زينة التي أخذت الدبلوم وتزوجت، فهل نجت من قبضة التقفيص؟ أبدا.. تزوجت قفاصا وصارت مثله قفاصة وهي الآن تزورهما في الورشة ومعها ابنها الرضيع، تسألها الأم لماذا رضيت بهذا العمل؟ فترد زينة عليها: ولماذا رضيت به قبلي؟!(بيؤثر في نفسي أما بشوفهم حواليا وبيشتغلوا امال كنت بعلمهم ليه؟؟) تقولها وقد اجتمعت الأسرة كلها في الورشة.. وحين تذرف نعمات دموعها الحقيقية التي لا جليسرين فيها فلابد لكل بشر أن يبكي معها..
في المساء يعودون، نعمات شاردة فيما تحمل من هم (كنت كل ما أكون راضية بحالي تفاجئني الدنيا بشيء أصعب من اللي قبله) ثم تركز مع ابنها محمد الذي يتابع مع أبيه وأخويه المباراة محاولة قراءة أفكاره (آه يا ابن بطني.. اليوم انت اللي بتربيني!) .. أليست كلمات نعمات عذبة وصادقة؟ (أنا عشت جوة قفص ماعرفتش أبدا أخرج منه).. ثم تستدرك (هو أنا لوحدي؟ ما كل الخلق مزنوقين برضه جوه قفص!)
وتلتقط المخرجة هذه الاستعارة لتخلق لحظة ختامية مشحونة حيث نعمات تتقلب في سريرها وطرق التقفيص في أذنيها من جهة ولقطات من الورشة من جهة أخرى إلى أن تحمل نعمات الحفيد وتنظر للبعيد في عشم عكس نظرتها الحقيقية في فراشها للغد الغادر وعيناها متوجستان لتهمس (يا ترى حيحصل جوة القفص حاجة ثانية حلوة؟؟).
"همس النخيل" سيناريو وإخراج شيرين غيث خريجة معهد السينما عام 1996، إنتاج قطاع النيل للقنوات المتخصصة عام 2006، تصوير وائل يوسف وشريف شعير، مونتاج سامر ماضي، وقد حصل على جائزة أحسن فيلم تسجيلي وجائزة الإبداع للمخرجة بمهرجان الإذاعة والتلفزيون، وأحسن تسجيلي فوق 15 دقيقة بالمهرجان القومي للسينما، وجائزة لجنة التحكيم بمهرجان النيل لأفلام البيئة.
نتابع مسيرة هذه الكتيبة من المنزل للزراعية حيث ينقسمان لمجموعتين: مجموعة الدراسة ومجموعة التقفيص.. الأولى بها محمد وإيمان –المعوقان- وأختهما سحر، والثانية مكونة من نعمات وزوجها وابنيهما أسامة وإبراهيم اللذين لم يحرزا تقدما تعليميا فاستسلما لجحيم التقفيص.
نحن الآن في الورشة، اللقطات القريبة والمتوسطة التي تميز الفيلم كله تجبرك على أن تعيش خنقة هؤلاء الناس لمدة 14 ساعة يوميا، (ده عرقنا احنا الأربعة في القفص 57 قرش!!) بينما هم يحتاجون إلى 7 جنيه يوميا لمحمد وإيمان فقط لأن مدرستهما في بنها (وأنا منبهة عليهم ماحدش يدفعلهم الأجرة ولا يستعطف بيهم)..
ننتقل لصف الصم والبكم بينما صوت نعمات الداخلي لا زال يصاحبنا، ثم ننتقل إلى ورشة التقفيص حيث تعيد المخرجة لحظة من الحياة دون أن تشعرك بأنها فارقت الأسلوب التسجيلي للفيلم.. فلأنها (مهنة متعبة والجميع تعبان منها) يترك الابن أسامة الأعواد ساخطا للحظة فتسأله نعمات (مالك يا عين أمك؟) فيجيبها (دماغي مصدعة) فترد نعمات ما بين مطرقة العوز وسندان الأمومة (قولة انك تعبان دي بتزعلني لأن أنا أم.. حعملك شاي بس اشتغل).
الوحيدة التي لم نرها من الأبناء حتى الآن هي زينة التي أخذت الدبلوم وتزوجت، فهل نجت من قبضة التقفيص؟ أبدا.. تزوجت قفاصا وصارت مثله قفاصة وهي الآن تزورهما في الورشة ومعها ابنها الرضيع، تسألها الأم لماذا رضيت بهذا العمل؟ فترد زينة عليها: ولماذا رضيت به قبلي؟!(بيؤثر في نفسي أما بشوفهم حواليا وبيشتغلوا امال كنت بعلمهم ليه؟؟) تقولها وقد اجتمعت الأسرة كلها في الورشة.. وحين تذرف نعمات دموعها الحقيقية التي لا جليسرين فيها فلابد لكل بشر أن يبكي معها..
في المساء يعودون، نعمات شاردة فيما تحمل من هم (كنت كل ما أكون راضية بحالي تفاجئني الدنيا بشيء أصعب من اللي قبله) ثم تركز مع ابنها محمد الذي يتابع مع أبيه وأخويه المباراة محاولة قراءة أفكاره (آه يا ابن بطني.. اليوم انت اللي بتربيني!) .. أليست كلمات نعمات عذبة وصادقة؟ (أنا عشت جوة قفص ماعرفتش أبدا أخرج منه).. ثم تستدرك (هو أنا لوحدي؟ ما كل الخلق مزنوقين برضه جوه قفص!)
وتلتقط المخرجة هذه الاستعارة لتخلق لحظة ختامية مشحونة حيث نعمات تتقلب في سريرها وطرق التقفيص في أذنيها من جهة ولقطات من الورشة من جهة أخرى إلى أن تحمل نعمات الحفيد وتنظر للبعيد في عشم عكس نظرتها الحقيقية في فراشها للغد الغادر وعيناها متوجستان لتهمس (يا ترى حيحصل جوة القفص حاجة ثانية حلوة؟؟).
"همس النخيل" سيناريو وإخراج شيرين غيث خريجة معهد السينما عام 1996، إنتاج قطاع النيل للقنوات المتخصصة عام 2006، تصوير وائل يوسف وشريف شعير، مونتاج سامر ماضي، وقد حصل على جائزة أحسن فيلم تسجيلي وجائزة الإبداع للمخرجة بمهرجان الإذاعة والتلفزيون، وأحسن تسجيلي فوق 15 دقيقة بالمهرجان القومي للسينما، وجائزة لجنة التحكيم بمهرجان النيل لأفلام البيئة.
5 comments:
ياريت النمازج الفقيرة دى تبدى تظهر فى السينما من تانى لأنها تقريبا اختفت تماما
وبقت كل الافلام دلوقتى بتدور حول ناس اغنياء وتجد الفيلم ملىء بمختلف السيارات على احدث طراز وفنادق ومنتجعات سياحية لابهار المشاهد ولكنها لا تعكس الواقع المرير الفقير الذى نعيشه
اين فيلم مثل البيه البواب
اين تجسيد شخصيات من قلب الحياة مثل نعمات ؟
عزيزي خالد
مقال جميل لفنان جميل، لم يفاجئني إنشغالك بقضايا المهمشين من أبناء الوطن، فهو أمر كنت أراه في عمق عينيك على الشاشة منذ أعجبت بك في فيلم جمال عبد الناصر، يذكرني المقال بقصيدة لشاعر عربي مجهول هو انا منها
:
إبكي يا فتاتي
فرحلة الدمع بين الجفون و الخدود
تطرح أسئلة كبيرة
تريني مآسي دنيانا و مآسيها كثيرة
إبكي..
لأرى الأطفال المحرومين من الحلوى
و من اللعب الصغيرة
إبكي ..
لأرى حداد الأرامل و إنكسار اليتامى
و حذاءٍ بالٍ في قدم صغيرة
إبكي ..
لأرى الشعوب المنكوبة و المركوبة
و القانعة بسكنى الحظيرة
إبكي ..
فبكاؤك خطوة أولى للخروج من الحظيرة
انا قريت الموضوع تذكرت علي الفور نص مسرحي قراته لمكسيم جوركي بعنوان الحضيض
يصف فيه حال مجموعه من الناس يسكنون في قبو او كوخ مثل العشوائيات و المقابر عندنا و هؤلاء الناس من جهات مختلفه و يعانون من شظف العيش و الفقر المدقع
اول ما قراتها حسيت انها عن فقراء مصر و عرفت لماذا يعد مكسيم اديبا عالميا عندما اكتشفت هذه المقاربه
تسلسلك رائع, جعلني أرغب وبشدة في مشاهدة الفيلم
يقول القانون الكوني أن الفيلم سيلقي بنفسه في طريقي خلال أيام
سأخبرك برأيي عندها
آسر
بسم الله ماشاء الله ..سردك رائع
وانا تعايشت مع القصة وتخيلتها
اه يا استاذنا الناس ديه نموذج
مجسد وحى على ان الانسان اللى بيرضى بقليله موجود ...ان الناس ديه الجشع والطمع وقلة القيمة كلمات مش موجودة فى قاموس حياتهم ...وسبحان الله انا كنت لسه كاتبه موضوع عن فكرة التنازل وان ازاى الانسان ممكن يعيش ملك زمانه ويرضى بقليله من غير ما بتنازل تنازل سلبى يحرمه حق العيش مع الاحتفاظ بكرامته وآدميته ..
الموضوع رائع وتسلم ايدك
Post a Comment