Saturday, March 10, 2007

ســـوق الثلاثــاء.. من مجموعة يوميات خلّود

يذهب الى السوق صباح الثلاثاء، يبحث عن شيء معين.. أو غير معين.. يبحث عن شىء يقول حين يجده:
"ها هو الذى كنت أبحث عنه.. وجدته .. أخيرا ".
السوق فى صباح الثلاثاء مزدحم وكريه، ورائحته توحي بالعفن، والناس تصدر نشازا فى الصوت واللون والحركة، يبحث، يجول بعينيه واجهات المحال الزجاجية، الدكاكين، الأكشاك، عربات الباعة الجائلين، صناديق الأطفال البائعين، لا يجد مايبحث عنه، لا يجد ما يستحق أن يوجد، يتوقف أمام بائع الكحول، المحل ذو الحروف الضخمة، الفاترينه التى يعلوها التراب، قرص البسطرمة فى المواجهة، يفكر فى شراء زجاجة براندي، يطرق جيبه الممتليء.. ( كانت الليلة موعد قبض الراتب الشهري.. من أجل هذا يفقد متعة الشهر.. من أجل هذا الامتلاء يحتمل خواء الشهر بطوله).. يفكر فى شراء زجاجة ويسكي، يعدل عن رأيه، يبحث، يبحث.
قافلة الفتيات التى مرت بجواره جعلته ينحاز بالنظر اليها، كانت الصبايا مقيدات الجيد والكفين والقدمين، سلاسل طويلة طويلة تجرها فى المقدمة امرأة ذهبية الشعر وأخرى سوداء البشرة، مسلسلتان هما الأخريان، السوق يهدأ قليلا، الأنظار تنتظم فى اتجاهها صوب الصف الحريمي الطويل، المائدة الخشبية الكبيرة تنصب، تعتلي الفتيات المائدة المنصة يتصدرهن البائع النحيف الوسيم ذو الشارب المهندم بصوته الرخيم، يمسك بالميكروفون اليدوي، يفتتح جلسة البيع، يأتيه على مهل، يتأمله يناقش الجمهور.. (كان صوت الناس قد عاد لانعدام التوافق مرة أخرى وبدأت أصوات الرجال تتغلب على الساحة وتحتلها).. يمسك الشاب النحيف الوسيم بالميكروفون ويفاضل فى نزاهة ملحوظة بين بضاعة الفليبين والشام وتركيا، الأوروبيات أعلى سعرا، الأمريكيات نادرات، والإفريقيات سعرهن ضعيف.
وصل الى مائدة المنصة فى خطو متمهل.. كان البائع فى تلك اللحظات قد تمكن من انتباه الحضور، لديه إجابات على كل الأسئلة ودائما يقدم العرض الذى يصعب رفضه أو التملص من قبوله، يسأله البائع فجأة:
"كيف تفضلها يا سيدي؟"
أجاب بعفوية:
"ما أبحث عنه ليس لديك"
كرر البائع سؤاله مضيفا حرفا لئيما فى المقدمة:
"ف.. كيف تفضلها ياسيدى؟"
أعاد إجابته:
"ليس عندك"
ابتسم البائع ابتسامة واسعة:
"لو لم أكن متأكدا مما لدي لما نزلت السوق،
ولو لم تكن واثقا من انى أحوز ما تريد لما أطلت الوقوف..
سيدى .. إنك تنتظر مني تأكيدا.. وأنا أؤكد لك..
ما تريده .. عندي."
فقال له فجأة:
"أريدها جميلة الى حد التوحش، أظافرها مخالب، وشعرها خصل متماوجة هائجة،
وتفاصيل جسدها حادة وملتهبة، لا أريدها بكرا ولا ناطقة.. أريدها خرساء!"
سكت الجمهور تماما للحظة حتى تكلم البائع الوسيم بعد أن ابتسم ابتسامة هادئة وادعة :
" ولك أن تعرف أيضا باقي مواصفاتها .. سمراء الى حد الحمرة،
لا أقول طويلة أوقصيرة أقول طولها مناسب جدا ..
خصرها منسحب ودائري .. وهذه هي .. بلا اسم ..
ويمكنك أن تمنحها الإسم الذى تريد!"
تأملها كانت تقترب مما فى خياله فى تلك اللحظة، صفق الناس كثيرا للبائع الماهر، انحنى لهم واستقام سريعا، أحضر صندوقا ووضع فيه المرأة المتوحشة الخرساء، أعطاه الكتالوج الخاص بها.. كيف تعمل وكيف يمكن القيام بأعمال الصيانة فيها، ماذا تأكل وكيف تمارس الجنس، أعطاه الصندوق شاكرا إياه، فأخذ منه الصندوق دون أن يبتسم ولكن وجهه كان هادئا، كان يشعر أن هذا قريب مما كان يبحث عنه كي يرضى به وينصرف.
أخرجها من الصندوق فى غرفته، أعاد تركيبها، وجد ثديا إضافيا عليه بطاقة صغيرة، كان ثديا هدية، ثديا يحمل شارة البائع وعناوينه والأرقام الهاتفية.. ملأه بالماء ووضع فيه بعض الزهور البيضاء وعلقه على خطاف تدلى من طرف شباكه الحديدي.
عاد الى المرأة.. وجدها تنبض حين احتضنها.. أحس بشهيقها وزفيرها، بحرارة جسدها، لم يتكلما، تزايد نبضها وهى تحضنه..
يطبق أطرافها فى آخر الليل ، يطويها ويضعها فى الصندوق ثانية.
*******
ينهض فى الصباح ... يذهب الى عمله .. كان كل شىء كما هو .. منذ آخر زر فميصه يربطه ويلف ربطة العنق عليه مرورا بفناجين القهوة أمامه وأعقاب السجائر مرشوقة فى بقايا البن البارد المترسب فى القاع الضحل، أصابع الموظفات الخارجة من مقدمة الشباشب القذرة، العرق على جبين السكرتيرة الحبلى، الأوراق المربوطة بالدوبارة المعقودة وانتهاء بفك ربطة العنق وتكويرها فى جيب الجاكيتة الأيمن بعد إغلاق درج المكتب الأجوف فى ساعة الانصراف.
******
يعود الى البيت، يخرجها من الصندوق، يفردها.. يعيد تركيبها، يحضنها.. نبضها خافت هذه المرة.. يحضنها أكثر، يقلّبها، ينهض، يضعها فى الصندوق.
******
يذهب الى العمل .. يعود إلى البيت ... يفتح الصندوق ... نبضها خافت أكثر فأكثر .. يحضن ... يقلب ... يضع .. يذهب .. يعود ... يفتح .. يخفت .. يخفت .. يحضن... يخفت ... يضع ... يذهب .. يعود .. يخفت ... يخفت ... يخفت ..
*******
بعد مدة معينة .. أو غير معينة .. تصدر أعضائها أزيزا مزعجا.. يقرأ الكتالوج .. يملؤها بالزيت .. الأزيز المزعج يعلو .. ينهض .. يتيقن من أنها صدأت ... ينهض ... يحملها .. يلقيها فى صندوق القمامة .. ويعود إلى سريره وكل أعضائه تصدر ذات الأزيز المزعج.. يثبت فى وضعه حتى الصباح وقد غطته تماما طبقة الصدأ الطحلبية.. وفى النافذة الحديدية كانت الزهور البيضاء داخل الإناء الثدي تحتاج الى من يسقيها وفى عيونها شوق واضح الى الماء.

رجـــل الجليـــد

كان بيتها الأبيض الهاديء يقع فى ذلك الشارع الهاديء، لا يذكر أن سيارة مرت، لا يذكر أن أحدا صرخ، لا يذكر حادثة قبيحة أو مزعجة، كان بيتها من طابقين، وكان الشتاء قارسا، وكان البيت دافئا، كل زواياه تشع الدفء.. كدفء وطنه البعيد، وكانا ينامان سويا حين ينزل الظلام، وكان صدره دافئا، وكان صدرها أكثر دفئا من صدره.. ومن البيت.. ومن الوطن البعيد.
ذات مرة أمطرت السماء ثلجها القطني، راقباه معا من النافذة الصغيرة فى الطابق الثاني، ملأ الثلج الحديقة الصغيرة الخلفية، راقباه من النافذة الصغيرة تكتسي قطنا، احتضنها.. فنامت على كتفه.
فى الصباح لعبا سويا فى الثلج، بنيا معا رجلا من الجليد، وضعا له أنفا من الخيار، صنعا له عينين من الكرز، وفما صغيرا صغيرا من حبة عنب خضراء.. حين عادا معا الى البيت كان البرد قد تملك منه، غطس فى السرير الصغير، التحف بالبطانية اللبنية، كان ملمسها ناعما ودافئا، وكان وجهها هناك.. قبلته على رأسه وأطفأت له النور.. فنام.
رأى فى نومه قططا عرجاء تنهش وجه رجل الثلج.. شعر باختناق.. شعر أن يديه غائصتان فى الجليد.. شعر بوجهه تنهشه القطط العرجاء.. ورأى القطط السمينة تبتعد والدم يحيط بأنيابها الطويلة.
***
خرج فى الصباح بعد أن تخلص من انزعاجه لدى يقظته.. استقبل شعاع الشمس شاردا.. فتح له القميص، خلع له الكوفيه وغطاء الرأس والقفاز، مرح الأطفال كان غير مزعج على الاطلاق، كانت هناك مقطوعة موسيقية آخذة فى النمو فى أذنيه وكانت الشمس قرصا برتقاليا لطيفا، ولكن الهواء كان باردا قليلا.
كانت هناك غابة بينها وبين البيت الهاديء شارع واحد، شارع آخر هاديء، مشى إليها.. إلى غابة من الأشجار العارية ، مشى فى وسطها قاده الطريق الصغير وسطها الى أعماق الغابة.. إلى جدول متجمد، نظر إلى إحدى الأشجار، وجد أرجوحة مهجورة من صنع الأطفال، جلس عليها وهو يحن الى أرجوحة صنعها حين كان طفلا.. معها.. مع تلك الصغيرة ذات الشعر الأسود الناعم والعينين السوداويين والوجه الأسمر الضاحك.. الغمازتين.. دقة الحسن.. والحسنة الصغيرة على الخد الأيسر.
سقطت به الأرجوحة الضعيفة حين حاول هزها، نظر الى الأحبال المقطوعة وهو على الأرض، وابتسم ابتسامة شاردة.
كانت الأشجار عارية، وكان الجدول متجمدا، تذكر الفتاة السمراء الصغيرة ثانية.. هبت نسائم الوطن.. هجم الماضى عليه، واصطادته الذكريات.
*****
حين عاد إليها.. إلى البيت الدافيء فى الشارع الهاديء.. كان يحن وقتها إلى هدير مزعج يصدره القطار الذي لطالما مر بجوار مدرسته وهو صغير، كان يحن إلى مدرسته الصغيرة، وإلى فتاته الصغيرة، وكان يحن إلى نفسه صغيرا.
واجهها فى غرفة نومها الدافئة، حين استيقظت من النوم كان شعرها الأصفر مبعثر الأطراف على الوسادة الوردية، فتحت عينيها الزرقاوين، لم تلق عليه تحية الصباح ولكنها ابتسمت وسط مغالبة النعاس قائلة له:
" أحبك "
كان يرتعش .. أخذها فى حضنه وقبل رأسها .. حاول أن يخفي اضطرابه.. لكنها نظرت فى عينيه لحظة ثم قالت له إن قلبه يخفق بشدة.. فقال لها بصوته المرتعش:
" أحبك "
****
عاد فى اليوم التالي إلى الغابة، سار فى الطريق الصغير بين الأشجار، كانت الأشجار عارية، وكان الجدول متجمدا.. هتف فى مواجهة الماء الزجاجي فجأة باسم فتاته السمراء.. تدفقت ذكرياته حتى تحرك الماء المتجمد، وتكلمت الأشجار العارية.
كان الحوار قصيرا .. سألته الأشجار عما يريده .. قال إنه لا يعرف.. أعادت الأشجار السؤال.. قال إنه يريد أحد شيئين.. أن يملك الغد.. أو يسترجع الماضي.. وحين سألته الأشجار عن حاضره كان حانقا وقال وهو غاضب إنه لا يراه ، لايستطيع أن يلمسه، لا يستطيع أن يحسه، ولا يستطيع أن يشعر بنفسه فيه.. وتدافعت الذكريات.. قص عن طفولته.. عن مدرسته الصغيرة.. عن صوت القطار المثير للتوتر.. قص عن أصحابه الصغار.. عن الأرجوحة المعلقة على الشجرة الكبيرة فى فناء المدرسة.. ثم قص عن فتاته الصغيرة السمراء..
سكتت الأشجار وتجمد الجدول.. وعاد إليها مبللا بالخيانة.
أعد لها وله الفطور، دخل به إلى غرفة النوم، وقف أمامها، فركت عينيها وهى تقول له مبتسمة:
" أحبــــــك "
لم يأكل معها .. كان شاردا .. كان الهدوء قد استحال مللا .. والدفء صار رتابة.. ووجهها الأبيض غريبا.. عيناها الزرقاوان الطيبتان تدفعانه الى التمرد.. بينما كان شعرها متمردا عنه فى صفرته وتموجه.
نهض .. تمشى فى الغرفة الصغيرة .. التلفت اليها فجأة وقال لها إن عليه أن يرحل.. وقفت قطعة البسكويت مترددة بين القضم والسقوط.. بدت عيناها الطيبتان جريحتين ولكنهما لم تصارحا بالجرح.
****
حمل حقيبته ووقف على باب البيت الأبيض الهاديء.. نظر إلى رجل الثلج الذى بنياه معا نظرة توديع.. ثم استدار إليها.. قبلها على رأسها وهو يبكي وقال:
" لا أعرف لماذا أفعل ذلك.. لا أعرف لماذا علي أن أفعله..
صدقيني.. أرجوك "
ابتسمت وهى تبكي.. قالت له :
"وداعا".
*****
حين جاء الربيع، ازدهرت الحديقة، ولم تعد الأشجار فى الغابة عارية، ولا عاد الجدول ساكنا، وظهرت ملابس الأولاد الملونة.
حين جاء الصيف، خرجت الأولاد ترتدي الملابس الخفيفة، وبدأ الهدوء فى التقلص، واليوم بدأ يطول.
حين جاء الخريف، بدأ العد التنازلى للشتاء، وأسقطت الأشجار أوراقها.
حين عاد الشتاء، كان واقفا على باب بيتها الدافيء فى ذلك الشارع الهاديء يحمل فى يده حقيبة صغيرة، وفى الأخرى زهورا، وكان ينظر إلى شباكها فى الطابق الثاني، والذكريات تهدر.. فى ذلك البيت .. فى تلك الغرفة .. كان ينتظرها أن تفتح له..
وكان البرد قارسا .. قارسا ..
****
فى الصباح.. خرجت الأولاد ترتدي ملابسها الثقيلة وقفازاتها الصوفية فرحة بالرجل الثلجي الذى يبدو أن أحدا قد صنعه بالأمس.. لم يكن عليهم إلا أن يضعوا له كرزا مكان عينيه وثمرة خيار مكان الأنف وفما من العنب، وحين تركوه كان هناك كلب أبيض ينبش الثلج بحثا عن شيء ما يقلقه.. حتى وجد الحقيبة الصغيرة وعلى مقربة منها الزهور التى التحفت بالثلج.

"الشووعـــي!"

كان حازم ينظر إلى شراب بابا الأبيض النظيف وإلى شراب عمو سمير الأبيض ذي البقعة البنية وهو يفكر فيما جعل شراب عمو سمير قذرا هكذا حينما وضع بابا رجلا على رجل وهو يقول لعمو سمير ان هذا الكلام الذى سمعه من رجل اسمه أحمد فى الشغل لايصدر إلا من واحد "شيوعي".
التفت حازم إلى بابا والكلمة ذات الجرس العميق ترن فى أذنه:
"بابا ..بابا .. شووعي يعنى ايه؟؟"
قالت له ماما أن يسكت لأن بابا يتكلم والكبار عندما يتكلمون..
"يووه!.. طب يعني إيه شووعي بقى ؟؟"
قال له بابا بابتسامته اللطيفة إن الشيوعي هو الذي .. الذي.. هو واحد كافر ويريد أن يجعل الناس كلها كفرة!
غضب حازم جدا من " الشووعي" هذا الذى لا يحب ربنا ولا ربنا يحبه، وتمنى من كل قلبه أن يدخل " الشووعي" هذا النار.
عاد حازم ينظر إلى شراب عمو سمير ولكنه كان يفكر فى " الشووعي" هذا الذى يريد أن يجعل كل الناس مثله كفرة، عرف فورا أن وجه " الشووعي" هذا لابد وأن يكون نحيلا.. وطويلا.. يمكن أطول من وجه طنط زينات زوجة عمو سمير، ولابد أنه يضحك بصوت خبيث مثل أبي لهب لأن أبلة أماني قالت اليوم إن أبا لهب كان يؤذي الرسول لأنه كافر وكان يضحك دائما فى خبث هو وامرأنه حمالة الحطب التى ستدخل النار هى وزوجها و " الشووعي" هذا الـ...الـ... الكافر الشرير!
نظر حازم إلى وجه بابا اللطيف، بابا لطيف جدا، ويعرف كل شىء.. دائما يقول له كل شىء، هو أول واحد قال له إن ربنا يحب الذين يصلون حتى قبل أن تقول له هذا أبلة أماني لان أبلة أماني قالت فى أول السنة إن الذين يصلون يدخلون الجنة وأيضا قال له عن أشياء كثيرة، وعن الغوريللا وطرزان، والفلاحين الذين كان الساحر الشرير يسرق منهم الزرع كل سنة بعد أن يتعبوا جدا ويزرعوه ويكون جميلا ولكنهم ضربوه أخيرا حين جاء البطل الذي كان يقتل الأسد بكف واحدة.. جاء من بلد بعيد وكان يحب الفلاحين وكانوا يحبونه جدا جدا..
"طب وهو " الشووعي" ده ممكن يقوللي أنا كمان أبقى كافر زيه يا بابا؟
بص هو الشيوعي ده.. "
عادت ماما تسكت حازم ثانية وهى تقول له ان بابا يتكلم مع عمو سمير فى موضوع مهم وانه اذا لم يسكت فسيدخل غرفته وينام..
"طب بص.. " الشووعي" ده ممكن.."
ولكن ماما قالت له:
"ها ..؟؟"
وعرف حازم انه بعد "ها ..؟" هذه سيدخل غرفة النوم فسكت ولكنه قرر بينه وبين نفسه ان يضرب هذا " الشووعي" على وجهه بالبوكس لو قابله وقال له ان يصبح كافرا مثله لانه يحب ربنا جدا جدا ويكره الشيطان جدا و" الشووعي" هذا صديق الشيطان مثل ابى لهب وهو الآن قوي ويستطيع أن يضربه بالبوكس وبالشالوت مثل ذلك البطل الذى كان يقتل الأسد الشرير الذى كان يأكل طعام الفلاحين الغلابى وكان الساحر الشرير قد سحره وهو كان فى الأول عصفورا .. فكر حازم قليلا ثم حزن على الأسد! أول مرة يحزن على الأسد لأنه كان كل مرة يفرح لأن البطل قتل الأسد ولكن الأسد لم يكن له ذنب لأنه كان مسحورا وهو كان أصلا
عصفورا.
قالت ماما إنها ستحضر الكعكة التى عملتها اليوم، فرصة!
"بابا.. بابا.. بص .. هو " الشووعي" ده بلده فين؟ هه؟
وبص.. هو بيتكلم عربى واللا اسرائيلى واللا انجليزى؟
وبص.. مش هو عنده سيف وبندقية ومدفع ؟؟"
نظر بابا بوجهه اللطيف وابتسم، بابا دائما لطيف ودائما مبتسم، وقال بابا إن " الشووعي" موجود فى كل بلد.
شعر حازم بالخوف!!
"يعني ممكن يكون مصري كمان ؟؟!"
قال بابا:
"آه يا حبيبي"
ثم عاد ليستكمل كلامه مع عمه سمير، فكر حازم فى أن " الشووعي" هذا ممكن ان يقابله في الشارع وهو يذهب الى المدرسة أو فى النادي يوم الجمعة وخاف جدا ولكنه إذا قابله ولم يخف منه فسوف يضربه على وجهه بالبوكس.. نعم هكذا!!
"حازم! قلبت ايه على الأرض؟!"
بعد أن مسحت ماما السجادة حمد حازم ربنا لأن عمه سمير وطنط زينات هنا وإلا لضربته ماما علقة ساخنة، فوجيء حازم بما قاله بابا لعمو سمير! مفاجأة مرعبة! لقد قال ان فى عمارتهم ولدا شيوعيا!
"عمارتنا احنا يا بابا؟!"
قال بابا إنه مصدر إزعاج للعمارة كلها ولكل الشارع..
"بابا.. بابا.. منشورات يعنى إيه يا ماما؟؟"
قالت له ماما إن المنشورات كلام وحش يكتبه هؤلاء الشيوعيون.. "شووعيين"؟؟؟ اذن هم كثيرون!! ولكن حازم سكت لأنه كان يريد أن يعرف من هو ذلك الكافر الشرير فى عمارتهم، كان قلب حازم يدق بعنف وأخذ يفكر وهو فى حيرة وخوف لم يرهما طول حياته.. لا يمكن ان يكون طارق لأن طارق يذهب مع باباه الى الجامع كل يوم جمعة ولايمكن ان يكون أنكل فريد لأن بابا قال أنه ولد وأنكل فريد كبير ولا يمكن ان تكون طنط فايزة لأن طنط فايزة ليست ولدا ولا يمكن .. كاد بابا يقول اسمه ولكن ماما قاطعته بأن يغيروا السيرة ولكن بابا ابتسم ابتسامته اللطيفة وهو يقول لماما إن الكعكة لذيذة، حازم لا يريد الكعكة الآن لأنه يريد أن يعرف من هو الولد الـ..
"ومراته رخرى شيوعية"..
قالت ماما ذلك وهى تقطع الكعكة! لا.. لا يمكن أن تكون ماما تقصد طنط آمال زوجة أنكل جمال لأن طنط آمال طيبة جدا ولذيذة جدا جدا وكل مرة تجعله يعزف على البيانو وتقبله إذا عرف كيف يغنى بلادى بلادى وهى تعزف ايضا.. طنط أمال جميلة جدا وكانت مريضة فى الاسبوع الماضى ولكنها لم تقل له أى شىء وتركته يلعب على البيانو طول اليوم، وايضا أنكل جمال طيب ولطيف مثل بابا ولو أنه أصغر من بابا لأنه يمكن فى عمر خالو حماده وهو دائما يضحك معه ويقول له حكايات كثيرة وهو الذى قال له إن الفلاحين هم الذين ضربوا الساحر الشرير على قفاه لأنه كان يضربهم على قفاهم وانهم بعد ذلك كانوا يزرعون الزرع الجميل ولا يأخذه أحد منهم أبدا لأنه زرعهم وحدهم لأنهم هم الذين زرعوه وتعبوا فيه وبابا لم يقل له كل ذلك ولكن أنكل جمال هو الذى قال له إن البطل الذى قتل الأسد المسحور لم يأت من بلد بعيد كما قال له بابا ولكنه كان فلاحا من الفلاحين الغلابى ولكنه لم يكن غلبانا وكان قويا وكان يحبهم ويحب الزرع الجميل كما كانوا يحبونه جدا وكان الزرع الجميل يحبه وغلب الفلاحون الساحر الشرير وبعد ذلك لم يصبحوا غلابى أبدا أبدا وعاشوا فى ثبات ونبات والولاد والبنات تزوجوا وكلهم صار عندهم أحفاد كبروا وصاروا أقوياء ولا يمكن للساحر الشرير أن يضربهم ثانية ولا أن يأخذ زرعهم الجميل ولا هو ولا الأسد الـ .. العصفور المسحور!
لم يصدق حازم أذنيه حين قال بابا إن "الشيوعيين" الذين يسكنون فى العمارة هم طنط أمال وأنكل جمال!! لم يصدق حازم أذنيه، ولم يصدق حازم بابا، ولكن كيف لا يصدق بابا؟؟؟ بابا لا يكذب أبدا، ولكن حازم لم يصدق أن أنكل جمال وطنط أمال كفار وأشرار وسيدخلون النار..
"لا يا بابا أنكل جمال وطنط أمال مش "شووعيين" ولا حاجة
وهم أصحابى وكويسين والله العظيم!"
نظر له بابا نظرة غير لطيفة بالمرة ثم نظر الى ماما وقال لها إنها لا تأخذ بالها من حازم وانه لو سمع أنه دخل بيت هؤلاء الـ.. يا خبر! أول مرة يسمع حازم بابا يقول كلمة من الكلام العيب!"
"بابا! ما تقولش كده على أصحابي!"
كانت تلك أول مرة يشخط فيها بابا فى حازم ويدخله الغرفة لينام.. وضع حازم رأسه على السرير وهو لا يستطيع النوم، وأخذ يرى فى الظلام البطل القاسي وهو يقتل العصفور المسحور.. وأخذ يبكي.. بلا صوت..

Monday, March 05, 2007

يوميات خلود.. مجموعة قصص قصيرة.. تأليف خالد الصاوي.. نشرت عام 1990

الناشر: هيئة الكتاب ضمن إشراقات أدبية
شرفني بتقديمها الراحل العظيم د. يوسف ادريس وهذا ما كتبه:
هذا الجديد الشاب
بقلم د .يوسف ادريس
فى السنوات الأخيرة بدأت أتلقى كل اسبوع تقريبا اكثر من مجموعة قصصية مطبوعة فى كتاب، سواء من مصر، او من مختلف أرجاء العالم العربى، وفى نفس الوقت أتلقى عددا مماثلا لها من دواوين الشعر، ومنذ ثلاث سنوات أقمنا مسابقة للقصة القصيرة وكان عدد القصص التى تلقيناها يزيد على ثلاثة آلاف قصة قصيرة، وكان الشرط الوحيد أن تكون القصة قد نشرت من قبل، ومعنى هذا أن لدينا الآن فى العالم العربى أكثر من عشرة آلاف كاتب قصة قصيرة وهذا رقم يعتبر مخيفا إذا قلت لكم أننا حين بدأنا كتابة القصة القصيرة فى الخمسينات كان كل الذين يكتبون القصة فى العالم العربى الواسع لا يتجاوز السبعة، وكلهم معروفون وكلهم يكتبون وينشرون.
والواقع أن الخمسينات كانت نقطة تحول فى الأدب العربى كله وبالذات فى الشعر والقصة القصيرة فاكتشاف (الشعبية) والأصالة المصرية والعربية فى كل مكان مع تطويرها الى أعلى مراحل الأدب العربى المعاصر، هذا الاكتشاف يبدو أنه حل جزءا من المعادلة الصعبة للقصة القصيرة (وليس القصص الصحفية منها بطبيعة الحال) .. فاندفع عدد كبير من الموهوبين فعلا والمتصورين أنهم موهوبون يكتب القصة القصيرة حتى أصبحت تنافس لعبة ولاعبى كرة القدم.
وبالطبع –وإن كان هذا من ناحية منه يبدو شيئا صحيا– إلا أن اختلاط الجيد باللا جيد جعل القراء يقتصرون على قراءة أعمال الكتاب الذين يعرفونهم والذين جربوهم قبلا وأعجبتهم أعمالهم، وينصرفون عن قراءة كل ما هو جديد مهما كانت براعته وجدارته. وهذا ظلم بين للكتاب الجدد. ولهذا أخذت على عاتقى أن أقدم بعض هؤلاء الكتاب الجدد للقراء مزكيا إياهم ومحاولا أن أصور للقارىء كيف يقرأهم ويستمتع بإنتاجهم.
وهأنذا أقدم اليوم للحركة الأدبية وللقراء على حد سواء كاتبنا الشاب خالد الصاوى الشاعر وكاتب القصة القصيرة وأنا لن أتحدث عن شعره وإنما هنا سأتحدث عن قصصه. إنها مغامرات قصصية أمتعتنى فقد خرجت بى عن نمطية القصص شديدة الإتقان موفورة الحبكة، وجست خلال عالم طفولى شاب يزخر بأفكار طازجة وقفزات للمجهول بحثا وراء ذلك الشىء الصعب فى القصة وتجديد شكلها وموضوعها.
لقد استمتعت بخالد الصاوى وهو بكل جرأة يقفز إلى مختلف موضوعات البشر من الهوامش الى المجنون الذى يكنس حروف الكتب الميتة وكنت وكأنما أعود أرى صباى وشبابى ومحاولاتى -بكل تهور – لخرق المستحيل.
إنى سعيدّّّّّّّ بتقديمه غاية ما تكون السعادة ولست أدرى إن كان سيكمل الطريق ويستمر فى القفز العالى أم سيختار طريق الشعر، فهو فى قصصه هنا شاعر، ولكن مهما كان إختياره فلابد أن نقر أن خالد الصاوى يمتلك كل مؤهلات الفنان الخالق، ولو أجاد إستعمالها فسنجد أنفسنا فى يوم قريب أمام فنان خالق خارق.
ومن كل قلبى أتمنى له التوفيق ،،،
د. يوسف إدريس

طبــــق الشوربــــة.. (من يوميات خلود

كان الولد الصغير الصغير يجلس مع والدته الكبيرة الكبيرة ووالده الكبير الكبير فى المحل الأحمر والأصفر والأخضر.. كانت الموائد كثيرة كثيرة، والناس يأكلون كل ما عليها. شرد سامح فى النجفة الكبيرة فى السقف : ( ياااه دى كبيرة خالص ! طلعوها ازاى ؟! ) حين فاجأته ضربة على كفه الصغيرة التى تمسك بالملعقة الفضية الكبيرة، "كل يا ولد بقى قرفتني.. الله ! حرقعلك سداغك فى وسط الناس .. كل!".
بعدما سكت بابا، سأل الولد الصغير الصغير نفسه:( هو بيزعق ليه بقى؟ مش باكل؟ هو كل حاجة كده؟ والشوربة طعمها وحش، مش بحب أكل الشوربة أنا بقى.. توء.. الله!). عاد الولد الصغير الصغير ينظر الى النجفة الكبيرة.. ( طلعوها ازاى ؟ دى كبيرة قوى .... يااااه ).. ارتعش سامح فى داخله وسمع صوتا كأنه "رررجف! " يخرج من صدره، ابتسم وهو يرى القطة الصغيرة تتمسح بقدمه.. " بص يا بابا ... قطة ... ها... ها ...اوعى يا شيخة خلينى آكل بقى .. هه ...مش عاوزه تمشى يا بابا ... بص!".. "امشى ... امشى ..! " زعق بابا للقطة الصغيرة تم التفت الى الطفل الصغير الصغير:
" كل بقى وخلصنا .. ساعة ؟ يللا عشان فيه رز ولحمة حييجوا دلوقتى "!
( يا نهار اسود! ... رز ولحمة بعدما اخلص الشوربة النيلة دي؟ توء ... حاجة قرف!). كاد الولد الصغير الصغير يبكى ولكنه فكر جيدا : ( بابا بيزعل بسرعة وبيضرب جامد).. ولذلك لم يبك ، ربما سيضربه بابا عندما يأتى الرز لأنه لن يأكله.
(الشوربة زى بعضه إنما الرز لا .. مش ممكن خالص .. مش هاكل الرز..هه .. بس!). كان بابا يتحدث مع ماما ، ماما سمينة جدا، (كل يوم بتقول حتجيب بيبى وبطنها بتكبر خالص ولو جه ولد حبقى ألاعبه بوكس وحعلمه يلعب بوكس وحنضرب أنا وهو زياد وأخوه الصغير الغلس ده اللى ضرب شهيرة ومقدرتش اعمله حاجة عشان زياد جامد بس انا كان ممكن أضربه المرة اللى فاتت لما كان متعور بس أنا اللى مارضيتش والمرة الجاية حضربه لازم ... لازم!). " يا ولد خلص طبقك بقى .. وبعدين معاك والله حديلك على وشك فى وسط المحل ..كل.. كل".. " طراخ " " أى " ( ايده جامدة قوي ... ايدي بتوجعنى من امبارح يا بابا يا شيخ!.. والشوربة طعمها وحش قوى ... والله ماواكل الرز برضه .. بس !). عاد بابا يتحدث مع ماما ، كان وجهه الكبير الكبير أحمر.. دائما هكذا وهو غضبان ، ورأسه الأصلع أحمر .. (هاء ... هاء بابا راسه بتنور ... هاء ... هاء!). نظر اليه بابا فجأة، عيناه غاضبتان، مد يده الكبيرة الكبيرة وضربه على يده الصغيرة.. "ماتشيلش الفوطه من القميص.. ماحدش يعمل كده". وضع بابا لسامح الفوطه فى القميص ونظر بابا حوله الى ... الى لا أحد ... ثم عاد يحدث ماما .. نظر سامح الى الفوطة فى ضيق: (شكلى صغير كده ... وهو لازم لازم فوطة يعني زى العيال الصغيرين ؟!). ترك الولد الصغير الملعقة، وانتظر طبق اللحم.. (لكن الرز مش حاكله برضه.. مش واكله يعنى مش واكله بس!).. فرح الولد الصغير لان بابا لم يقل له شيئا حين ترك الملعقة .. نظر اليه بابا فجأة، أشار الى طبق الشوربة "خلص الطبق كله".. "يا بابا مش عايز الشوربة وحشة مش بحبها".
كاد الولد الصغير يبكى وهو يمسك بالملعقة ثانية .. لكنه لم يكرر كلمة "مش عايز الشوربة" مرة أخرى لانه لو قالها ثانية فسيجعله بابا ياكل الرز ايضا ..( والرز ده مش ممكن أبدا ... الشوربة زى بعضه).. امسك بابا برجل الولد الصغير وازاحها بقوة : "نزل دى ... ماحدش يحط رجله على الكرسى وهو بياكل ... ماحدش يعمل كده فاهم؟".. (اف بقى! رجلى كانت كويسة كده!) لكن سامح نزل رجله بالطبع لأن بابا بعد ان يشخط مرة واتنين يضرب ، وبابا يده جامدة جدا.
نظر الولد الصغير الى القطة الصغيرة الصغيرة التي كانت تمسح رأسها فى قدم الطفلة الصغيرة الصغيرة في الترابيزة التي أمامه .. (شكلها حلو قوى.. شبه ميس أميرة).. "امسك المعلقة عدل.. ماحدش يمسك المعلقة كده.. هات وشك.. هات وشك هنا حلطشك قلم!" .. "معلش يا بابا خلاص .. هو خلاص حياكل كويس .. ياللا يا سامح .. ياللا .. كل". (كويس ان ماما سكتت بابا كان حيضربنى بالقلم .. اهى بصت وشافتنى بيزعق لى ... كان كويس يعنى يضربنى قدامها وكل الناس بتبص على ؟!).. " ما تشربش مية فى وسط الأكل .. ما حدش يشرب ميه وهو بياكل .. انت يا ولد أنت عايز تنضرب ولا أيه ؟".. ( هى الميه مش زى الشوربة؟! يوه بقى .. عطشان يا بابا يا أخي!!).. نظر الولد الصغير الى بابا وهو يكاد يبكى ، سيبكى فعلا ، هناك دموع ستسقط حالا على خده ، اعاد الولد الصغير رأسه الى الوراء حتى لا تنزل دموعه على خده الصغير ، نظر الى النجفة : (عالية خالص .. ممكن الواحد يركب عليها؟ يطلع فوق كده ازاي؟ ممكن الواحد يركبها ويهزها ويبقى عامل زى سندباد وهو سايب المدينة وراكب السجادة الصغيرة ...فيها حاجات بتطير زى الطيارات الصغيرة اللى بيطيروها فى اسكندرية ... طلعوها ازاى فوق كده ؟؟ ).. "خلص.. خلص.. خلص.." .."طــراخ".. كانت الصفعة قوية على خد الولد الصغير الصغير، امتلأت عيناه بالدموع، سخنتا أذناه ونظر الى طبق الشوربة هربا من عيون الناس الذين نظروا كلهم فجأة إليه.. نظر الى طبق الشوربة وقد شعر انه الآن يكره طبق الشوربة ويكره بابا أيضا، تسلل بنظره اليها، كانت تنظر اليه وهى تأكل قطع اللحم الصغيرة الصغيرة، شعر انها تشفق عليه، رغرغرت الدموع عينيه ففاضت على وجنتيه الصغيرتين وهو ينظر اليها، ابتسم اليها فجأة ثم نظر الى النجفة وفكر: (وممكن اتنين يركبوا عليها ويهزوها زى ما كان بلوتو وتان تان فى الطيارة الصغيرة اللى عملها تان تان وركبوها وهربوا من البلد اللى فيها الشريرين .. ايه ده؟! ايه الاسود اللى فى الشوربة ده؟).. "طـــراخ".. "ماتحطش ايدك فى الطبق يا واد انت.. انت ايه ؟ عايز تتهزأ ؟ تعال هنا.. انت قرفتنى آخر قرف". كانت أذنه ترتج فى يد بابا الكبيرة وفجأة كانت الصفعة مثل حجر كبير صدم وجهه الصغير.. شعر بدموعه الباردة تخفف من حرارة وجهه الملتهب.. "ماحدش يعمل كده.. قلتلك كده ستين مرة.. انت ايه؟ جاى من الشارع؟" .. نظر بابا الى الناس التى نظرت اليه، ثم نظر بسرعة الى الولد الصغير " انت من الصبح وأنت عاوز تتسكع على وشك.. أنا حوريك" .. ضربه بابا على رأسه ووضع الملعقة فى يده "كل.. كل.. كل.. محدش يسيب حاجة فى الطبق.. محدش يعمل كده أنا قلتلك ميت مرة.. صح ولا لأ؟ رد!".
كانت أذن الولد الصغير ترتج فى يد بابا الكبيرة.. وكان بابا يضرب رأس الواد الصغير بين كل رجة وأخرى، نظر سامح الى الناس الذين كانوا ينظرون اليه وصار يبكى بصوت عال.. وكانت البنت الصغيرة تنظر اليه ويداها الصغيرتان على خديها الجميلين، وكان طبق الشوربة آخر شىء ينظر اليه الولد الصغير قبل ان يعود الى البنت الصغيرة ثانية بعينيه الباكيتين تحت الضرب المتلاحق على رأسه ورآها بنصف عينه، حاول ان ينظر الى النجفة الكبيرة ولكنه لم يستطع ولذلك سحب رأسه من يد بابا وأمسك بطبق الشوربة ورفعه عاليا ، وكان آخر شىء سمعه الولد الصغير صرخة ماما العالية "ولد!!".. وصرخة بابا " آاااااااااااى "!!

حكاية الغولة " سفاخ " (من يوميات خلود

أنا معرفوش .. لكنه كان صغير قوى ... وكان ماشى فى الطريق ... " ترك ترك ترك " ... قامت جت مرة واحدة الغولة ومرة واحدة " سفاخ " ... راح مرمى على الأرض عامل " بم " .... وأنا متأـكد إنه كان مش عاوز يقع على الارض مرة واحدة لكن الجاذبية اللى فى عيون الأرض كانت أكبر من المقاومة!!
أنا اسمى سمير ... وأنا فى الحقيقة معرفوش لكنه كان ماشى فى الطريق وكان الطريق واسع " هوووه " .. وكانت كل غولة تعدى تعمل صوت مختلف " باب " .... تات " .... بيب ... "ازززز" " دش" .... وهو كان بيتحنجل وعينيه بتضحك ...إوعى كده لما أوريك ازاي... أهو كده ... أهو كده ... الحنجلة أهه! .. المهم ... ما أطولش عليك لتموت منى ... كان ماشى فى الطريق وكان صغير ... وعينيه علي ... وبتضحك.
جت الغولة و " سفاخ " ... بس ... وقع على الأرض ... وكان فيه دم كتير ... كتير قوى .. وعينيه العسلى اتنطروا بعيد ...ومابقوش بيضحكوا ... اسمه ايه ؟ .. اسمه اسمه.. هو انا اسمى سمير ... وهو كان صغير ... ومدور .... ومتكعور على الأرض مش باين منها ... ومرة واحدة ... اوعى السريع ... فووو ... " سفاخ " .... سفخته ... وفضل مكانه متلقح شويه لحد ما زقلناه الناحية التانية ودفسناه بين التراب!! وجبنا ورق الجرايد .... " فلش " .... "خرفش " ... "خش " .. فردناها كلها .. كل الجرايد عليه ... والمجلات والكتب ... أول ما اتقلب فى مكانه إحنا خدنا ديلنا فى سنانا وخلعنا ... حسيت انه بيبص لى بين الجرايد .. بس لما قربت ... كان ميت فى مكانه.. قمنا رجعنا جرى وقعدنا نتفرج عليه بيموت ... قصدى بعد ما مات ... قصدى كان مات ... هس .... هس ... قعدنا نتفرج على بطنه ... مش عاوزه تتحرك خالص .. وجت ست وقعدت تعيط وتصرخ وتشد شعرها ... طلعت قريبتى ... قريبتى من قريب خالص .. وكل الغيلان كانت واقفة ساعتها .. وكلهم عمالين يطلعوا دخان ... " فروم ... فروم .... فروم ... " فجو " كان فيه لون احمر ... بيخوف الغيلان قوى ... تقف مكانها لما تشوفه والولاد يعدوا بعينيهم العسلى ويروحوا جاريين ويروحوا بعيد و " سفاخ ".. يا قلبي!
يا نهار اسود ... أنا اسمى سمير ... وشفته .. وهو كان صغير ... ودمه خفيف ... شفته بعينيا الاتنين .. صغير ودمه خفيف ... و ... وكان بيحبنى قوى .... وكانت روحه فى ... هو له غيرى ؟ انا جاى أبلغ فى الغيلا ن كلها ... وجاى أبلغ عشان فيه " سفاخ " كتير ... أنا سمير ... ومضايق قوى من الغولة اللى مش أمنا ولا زفت ... وعاوزكم تاخدوها بعيد قوى... يا اما تدونى مكان لوحدى خالص ... يا كلاب .... كل ما أكبر لكم واحد تاخده تاخده الغولة "سفاخ"؟؟!! ... ده التانى !... يا كلاب!! .. أنا سمير .. وهو كان اسمه هشام ..و.. و أنا ما عرفتوش لما الغولة " سفاخ " قلعتله عينيه ورميتهم بعيد جنب الجزمة الجديدة ...
أما بعد ...
قرب وشك شويه يا بيه ...
حقولك اسمه بالكامل ...
هش ... هشام سمير ممد ... قرب وشك يا بيه كمان ... ماتخافش منى ... " سفاخ" "سفاخ" "سفاخ " !!!

هى والتشيلو (من مجموعة يوميات خلّود

كان التشيلو ينسل الى الأذان المصغية .. كان عميقا بلا حدود .. وكانت هى جالسة هناك .. فى ذلك الركن الأنيق .. بشعرها الكستنائي الطويل ... وفستانها الأبيض الطويل ذى الفتحة الطويلة .. وكانت ساقاها الجميلتان الطويلتان تنام إحدهما على الأخرى فى دعة وسلام أبدى.. وكانت أحجار الفيروز تزين أذنيها وصدرها وأصابعها الجميلة .. وكان هو واقفا ينظر اليها بشعره المجعد وشاربه ولحيته المنسدلين على ملامح وجهه الباهته ..
شاهدها تنظر اليه للحظة قبل ان تعود الى متابعة العازف .. تذكر أنها باتت ليلة فى حضنه ذات مرة منذ زمان بعيد.. بعيد جدا.. كانا يومها يجلسان وسط ذلك الجمع بين الأشجار كثيفة الأوراق مرتخية الأفرع.. كانا يتابعان مع ذلك الجمع دقات ذلك الرجل علي الطبول..وكان هو عاري الصدر .. وكانت هي عارية الصدر ..رقصا مع من رقصوا.. تمناها وتمنته... وناما في ركن من الغابة حتي تسلل الضوء الي غفوتهما .. وتذكر انه احبها ليلتها..
نظرت تجاهه مرة اخري وهي ترفع الكاس البرتقالية الي شفتيها ... ثم عادت تتابع التشيللو.. كان التشيللو عميقا.. كهوة بلا قرار.. تذكر انها حملت منه ...وانه اخذها هي والطفل الي مكان بعيد.. وعلي شاطىء البحر اقام ثلاثتهم ... فى البداية كان البحر مخيفا ، ثم صار بعد فترة صديقا.. كانا ينزلان البحر .. ويضحكان .. وكانت هناك شمش ترش الدفء والرؤية .. وكان المكان خاليا.. وهناك عاشا سنوات وسنوات..
نظرت الية ثانية وهى تصفق للعازف بعد الوصلة الاولى .. ثم التفتت عنه الى جارها فى الاريكة الفخمة ذات اللون النبيذى.. تذكر انه حملها وهو يعبر بها جدول الماء .. وكانت محمومة .. أخذها الى القبيلة الأم ...داواها الكاهن ... ثم حملها وعاد بها الى شاطئ البحر عبر الغابة وجدول الماء والاعشاب التى كان عليها تناولها كلما تعبت ثانية ... ولم ينم حتى شفيت ... وحين عادت كما كانت جميلة .. ناما سويا فى احضان بعضهما ليلا طويلا حيث كان القمر عينا مبتسمة فى السماء.. لم يكن هناك برد.. لم يكن هناك برد مثل هذا الذى يحسه الان وهو واقف بينه وبينها زجاج الفيلا.. يبحث عن شىء يأكله فى صندوق القمامة بجواره... خائفا من مجيء الشرطيين الليليين اللذين يصفعانه على قفاه كل ليلة اذا لم ينصرف فور رؤيتهما ... واذا كانا كريمين ولم يأخذاه الى القسم للاشتباه فيه..
حين جاءه ذلك الخاطر نظر اليها نظرة أخيرة قبل أن يستجمع قواه ويشير إليها ساحبا طرف جلبابه القذر بأسنانه تاركا على الزجاج دموعا تخصه وبعض الدماء حول الكسر الذى أحدثه قبل أن يركض حافيا ممزق الشريان فى الكف والقدم.