استفاد محمود سليمان خريج المعهد العالي للسينما عام 1994 من خلفيته القصصية، فقد انعكس قلمه المكثف ورؤيته الإيحائية وغزله للمعاني بأسلوب رمزي متعدد الأبعاد على فيلميه القصيرين الجميلين "النهارده 30 نوفمبر" و" أزرق وأحمر".
ففي "النهارده 30 نوفمبر" يقدم محمود سليمان شابا مصريا منعزلا يعيش في عوامة ويكتب رسالته الأخيرة حيث قرر الانتحار في هذا التاريخ المميز بالنسبة له متمنيا أن ينجح هذه المرة فيما فشل فيه في الأعوام السابقة.
ورغم أننا أمام شاب مقبل على الانتحار إلا أننا لا نرى أي أسى أو تردد في كلامه، بالعكس، هو يبدو متفائلا ومقبلا على الموت بما يوحي لنا بأن الحياة التي نحياها أحط من الموت بكثير، وهو المعنى المتردد على مدار هذا الفيلم القصير الذي يخطفك من أول لحظة.
وفي نفس الرسالة يوجه الشاب المنتحر كلمة للضابط الذي سيعاين جثته مؤكدا عليه أنها ليست جريمة قتل وليست بالتالي مدعاة للترقي والحصول على دبورة كما يقول هذا الشاب الذي لعب دوره بسلاسة وإتقان الفنان باسم سمرة.
ينطلق الشاب إلى الشارع بحثا عن أسلوب انتحاره في جو مرح للغاية لا أثر فيه لأية مأساة لنقع في سلسلة من مواقف العبث المصري من فوضى الشارع لجنون الحياة داخل الميكروباص، وإذ يستقر الشاب على الانتحار تحت عجلات المترو، يمسك به العسكري على شريط المترو ويقتاده للضابط الذي لا يعنيه إلا رؤية البطاقة ثم يصرفه، فيختار الشاب عمارة ليقفز من فوقها ولكنه يقابل عبثا جديدا حيث لا يجد شاب آخر وفتاته مكانا خاصا يحتويهما بفقرهما إلا المصعد الذي يوقفه البواب ممسكا بالثلاثة شاكيا من أن جميع الشباب يستغلون مصعد عمارته لذات السبب!
وبعد أن يعطي البطل للشاب الآخر وفتاته مفتاح عوامته ينطلق إلى عرض النيل على مركب بمجداف بينما المراكبي العجوز يستحلفه ألا يقدم على الانتحار إذا لم يكن لديه كيس بلاستيك متين يحفظ فيه بطاقته من الماء حتى لا يقبضوا على المراكبي كما حدث معه مرارا! والمدهش أن كل هذا يتم بأسلوب شاعري ولكن بشكل عادي جدا وكأن المشاعر كلها تحجرت ونضبت الحياة ولم يعد هناك مجال لأن يشتهيها حتى الشباب.
وفي لحظة رائعة يتمشى البطل على الكوبري وقد اشترى كيس بقسماط لكي يستخدم الكيس في تغليف البطاقة قبل القفز للماء من الكوبري، فيلتقي صدفة بنفس الضابط الذي سبق أن أفرج عنه، وهنا نراه ضابطا شاردا ومهموما، وحين يعرض عليه الشاب بعض البقسماط تلمع عينا الضابط طلبا للكيس.. أي طلبا للانتحار هو الآخر!!
ويعود الشاب لعوامته التي منحها للشاب الآخر وفتاته، ونشعر بمرور زمن حيث صار لهما طفل يحمل نفس اسم البطل الذي يكرر محاولته في عام آخر وقد تركنا في حيرة ممزوجة بالدهشة لتعدد الاحتمالات وقوة الإيحاء معا والتي خلفها مزج الحنين بالمرارة وتغليف حب الحياة بالرغبة الظاهرية في فراقها.
الفيلم 35 مللي من إنتاج المركز القومي للسينما عام 2005 وقد حصد عدة جوائز هامة منها جائزة لجنة التحكيم في المهرجان القومي للسينما المصرية، وجائزة الفيلم القصير في مهرجان اتحاد الإذاعة والتلفزيون، وجائزة محمد شبل للأفلام القصيرة، والجائزة البرونزية في مهرجان قرطاج، وجائزة جيرهارد ليمان في مهرجان لوكارنو بسويسرا إضافة لجائزة أحسن ممثل في مهرجان طنجة.
-------------
وفي العام التالي اتجهت فكرة الفيلم القصير "أزرق وأحمر" بمحمود سليمان إلى السينما المستقلة عبر فيلم ديجيتال قليل التكلفة ولكن شديد التكثيف والبراعة قام محمود بإنتاجه طمعا في المزيد من الحرية سواء في مواجهة محدودية وبيروقراطية إنتاج وتسويق السينما القصيرة في مصر أو في مواجهة مؤسسات الرقابة الشاملة على الإبداع.
فالأزرق والأحمر هنا هما لونا نتيجة اختبار الحمل، وبطلانا شاب –هو بطل محمود المفضل باسم سمرة- وشابة متميزة أتت بجهدها ووعيها من تيار المسرح الحر إلى ميدان السينما المستقلة هي الفنانة ريم سيد حجاب، ومكان الأحداث هو حجرة واحدة لا نبرحها مطلقا هي حجرة هذا الشاب الأعزب الذي يقع مع حبيبته فيما يقع فيه عدد كبير من شباب جيلهما المضطرب.. الحمل دون زواج.
النافذة الوحيدة المفتوحة على العالم خارج الغرفة هي سماعة الهاتف التي تنقل لنا أصوات أصدقائهما ما بين ناصح ولائم ونهاز فرص، وأم الفتاة التي تداري عن زوجها غياب ابنتها بينما الشابان يخدعانها بتشغيل شريط يحمل صوت الشارع حتى لا تشك الأم في أن ابنتها في مكان خاص، وموظفة جهاز تنظيم الأسرة التي لا تأبه لأي شيء مطلقا.
وبالفعل ينجح محمود في نقل إحساس التوتر لنا ولكنه يفعل ذلك بأسلوبه الرشيق الذي لا يسمح للأحزان أن تستولي على اللحظة مطلقا بل هو يلهو بالمأساة –كما فعل في فيلمه السابق- وكأنه يقول لنا (نعم نحن نعيش حياة سخيفة ومؤلمة، ولكن ذرف الدموع لن يغيرها.. دعونا أولا نتحدث بصراحة عن حياتنا هذه).
وبعد وصلة التوتر هذه وما صاحبها من تخيل للمستقبل وتكشف لكمية الضعف والمهانة التي يعيشها شباب غير قادر على تكوين حياة طبيعية حرة ومحترمة معا، تأتي نتيجة اختبار الحمل سلبية، لننعم مع الشابين بإحساس الراحة بعد قلق، وإن لازمنا إحساس المرارة بعد انتهاء هذا الفيلم الكبسولة.
الفيلم إنتاج نوفمبر 2006 وقد حصل حتى الآن على جائزة الفيلم القصير في مهرجان أولترنتيف برومانيا والجائزة الكبرى لمهرجان تيرانا بألبانيا.
--------
محمود سليمان واحد من شباب كثيرين قادرين على ضخ دماء جديدة وجريئة للسينما المصرية، وهو واحد من عشرات الأمثلة الواقعية على أن الأزمة لا توجد في الشباب ولا في النصوص، بل تكمن -وأكررها دون كلل أو ملل- في أسلوب اكتشاف وتنمية وتسويق مواهبنا.. فهي ليست أزمة مبدعين ولا أزمة جمهور، بل هي أزمة إدارة بالأساس.
ففي "النهارده 30 نوفمبر" يقدم محمود سليمان شابا مصريا منعزلا يعيش في عوامة ويكتب رسالته الأخيرة حيث قرر الانتحار في هذا التاريخ المميز بالنسبة له متمنيا أن ينجح هذه المرة فيما فشل فيه في الأعوام السابقة.
ورغم أننا أمام شاب مقبل على الانتحار إلا أننا لا نرى أي أسى أو تردد في كلامه، بالعكس، هو يبدو متفائلا ومقبلا على الموت بما يوحي لنا بأن الحياة التي نحياها أحط من الموت بكثير، وهو المعنى المتردد على مدار هذا الفيلم القصير الذي يخطفك من أول لحظة.
وفي نفس الرسالة يوجه الشاب المنتحر كلمة للضابط الذي سيعاين جثته مؤكدا عليه أنها ليست جريمة قتل وليست بالتالي مدعاة للترقي والحصول على دبورة كما يقول هذا الشاب الذي لعب دوره بسلاسة وإتقان الفنان باسم سمرة.
ينطلق الشاب إلى الشارع بحثا عن أسلوب انتحاره في جو مرح للغاية لا أثر فيه لأية مأساة لنقع في سلسلة من مواقف العبث المصري من فوضى الشارع لجنون الحياة داخل الميكروباص، وإذ يستقر الشاب على الانتحار تحت عجلات المترو، يمسك به العسكري على شريط المترو ويقتاده للضابط الذي لا يعنيه إلا رؤية البطاقة ثم يصرفه، فيختار الشاب عمارة ليقفز من فوقها ولكنه يقابل عبثا جديدا حيث لا يجد شاب آخر وفتاته مكانا خاصا يحتويهما بفقرهما إلا المصعد الذي يوقفه البواب ممسكا بالثلاثة شاكيا من أن جميع الشباب يستغلون مصعد عمارته لذات السبب!
وبعد أن يعطي البطل للشاب الآخر وفتاته مفتاح عوامته ينطلق إلى عرض النيل على مركب بمجداف بينما المراكبي العجوز يستحلفه ألا يقدم على الانتحار إذا لم يكن لديه كيس بلاستيك متين يحفظ فيه بطاقته من الماء حتى لا يقبضوا على المراكبي كما حدث معه مرارا! والمدهش أن كل هذا يتم بأسلوب شاعري ولكن بشكل عادي جدا وكأن المشاعر كلها تحجرت ونضبت الحياة ولم يعد هناك مجال لأن يشتهيها حتى الشباب.
وفي لحظة رائعة يتمشى البطل على الكوبري وقد اشترى كيس بقسماط لكي يستخدم الكيس في تغليف البطاقة قبل القفز للماء من الكوبري، فيلتقي صدفة بنفس الضابط الذي سبق أن أفرج عنه، وهنا نراه ضابطا شاردا ومهموما، وحين يعرض عليه الشاب بعض البقسماط تلمع عينا الضابط طلبا للكيس.. أي طلبا للانتحار هو الآخر!!
ويعود الشاب لعوامته التي منحها للشاب الآخر وفتاته، ونشعر بمرور زمن حيث صار لهما طفل يحمل نفس اسم البطل الذي يكرر محاولته في عام آخر وقد تركنا في حيرة ممزوجة بالدهشة لتعدد الاحتمالات وقوة الإيحاء معا والتي خلفها مزج الحنين بالمرارة وتغليف حب الحياة بالرغبة الظاهرية في فراقها.
الفيلم 35 مللي من إنتاج المركز القومي للسينما عام 2005 وقد حصد عدة جوائز هامة منها جائزة لجنة التحكيم في المهرجان القومي للسينما المصرية، وجائزة الفيلم القصير في مهرجان اتحاد الإذاعة والتلفزيون، وجائزة محمد شبل للأفلام القصيرة، والجائزة البرونزية في مهرجان قرطاج، وجائزة جيرهارد ليمان في مهرجان لوكارنو بسويسرا إضافة لجائزة أحسن ممثل في مهرجان طنجة.
-------------
وفي العام التالي اتجهت فكرة الفيلم القصير "أزرق وأحمر" بمحمود سليمان إلى السينما المستقلة عبر فيلم ديجيتال قليل التكلفة ولكن شديد التكثيف والبراعة قام محمود بإنتاجه طمعا في المزيد من الحرية سواء في مواجهة محدودية وبيروقراطية إنتاج وتسويق السينما القصيرة في مصر أو في مواجهة مؤسسات الرقابة الشاملة على الإبداع.
فالأزرق والأحمر هنا هما لونا نتيجة اختبار الحمل، وبطلانا شاب –هو بطل محمود المفضل باسم سمرة- وشابة متميزة أتت بجهدها ووعيها من تيار المسرح الحر إلى ميدان السينما المستقلة هي الفنانة ريم سيد حجاب، ومكان الأحداث هو حجرة واحدة لا نبرحها مطلقا هي حجرة هذا الشاب الأعزب الذي يقع مع حبيبته فيما يقع فيه عدد كبير من شباب جيلهما المضطرب.. الحمل دون زواج.
النافذة الوحيدة المفتوحة على العالم خارج الغرفة هي سماعة الهاتف التي تنقل لنا أصوات أصدقائهما ما بين ناصح ولائم ونهاز فرص، وأم الفتاة التي تداري عن زوجها غياب ابنتها بينما الشابان يخدعانها بتشغيل شريط يحمل صوت الشارع حتى لا تشك الأم في أن ابنتها في مكان خاص، وموظفة جهاز تنظيم الأسرة التي لا تأبه لأي شيء مطلقا.
وبالفعل ينجح محمود في نقل إحساس التوتر لنا ولكنه يفعل ذلك بأسلوبه الرشيق الذي لا يسمح للأحزان أن تستولي على اللحظة مطلقا بل هو يلهو بالمأساة –كما فعل في فيلمه السابق- وكأنه يقول لنا (نعم نحن نعيش حياة سخيفة ومؤلمة، ولكن ذرف الدموع لن يغيرها.. دعونا أولا نتحدث بصراحة عن حياتنا هذه).
وبعد وصلة التوتر هذه وما صاحبها من تخيل للمستقبل وتكشف لكمية الضعف والمهانة التي يعيشها شباب غير قادر على تكوين حياة طبيعية حرة ومحترمة معا، تأتي نتيجة اختبار الحمل سلبية، لننعم مع الشابين بإحساس الراحة بعد قلق، وإن لازمنا إحساس المرارة بعد انتهاء هذا الفيلم الكبسولة.
الفيلم إنتاج نوفمبر 2006 وقد حصل حتى الآن على جائزة الفيلم القصير في مهرجان أولترنتيف برومانيا والجائزة الكبرى لمهرجان تيرانا بألبانيا.
--------
محمود سليمان واحد من شباب كثيرين قادرين على ضخ دماء جديدة وجريئة للسينما المصرية، وهو واحد من عشرات الأمثلة الواقعية على أن الأزمة لا توجد في الشباب ولا في النصوص، بل تكمن -وأكررها دون كلل أو ملل- في أسلوب اكتشاف وتنمية وتسويق مواهبنا.. فهي ليست أزمة مبدعين ولا أزمة جمهور، بل هي أزمة إدارة بالأساس.
3 comments:
أنا شفت أزرق وأحمر في مهرجان الأقلام المستقلة في معهد جوته - عرض خاص للمدونين
هوعجبني في عرض المشكلة بس أنا مش شايف إن ده حل للمشكلة برده
للاسف وجودي خارج مصر مش مخليني استمتع بالابداعات دي الا من خلال البلوج ده يا خالد
عموما زي ما قلتلك قيبل كده باسم سمرة وش مصري اوي
محمد سليمان كمان و بالذات فيلم ازرق و احمر بوصفك ليه جميل اوي
دايما اقول على الافلام اللي بتتصور في مكان واحد انها مكربسة احاسيس و مشاعر
و ده مش اي حد بيقدر يترجمها بالصورة و الصوت
تحياتي ليك و لكل واحد بيحاول يبدع في الوقت اللي احنا فيه ده
اذيك يا استاذ يا كبير
انا شرفني اني لاقيت ليك المدونه دي بالصدفه واقراهالانك من الفنانين المثقفين القلائل في مصر واللي ان شاء الله ليهم مستقبل ياهر اكتر واكتر
بس انا ليه رجاء عند حضرتك
انا عاشق للافلام الروائيه القصيره واما قريت كلام حضرتك عن افلام محمود سليمان دولات ع الافلام دي وما لقتهاش ولا لقيت اي افلام قصيره فياريت حضرتك تقلي علي موقع او طريقه احمل بيها الافلام دي عشان استمتع بيها واشوفها
واكون شاكر جدا
Post a Comment