Saturday, March 10, 2007

رجـــل الجليـــد

كان بيتها الأبيض الهاديء يقع فى ذلك الشارع الهاديء، لا يذكر أن سيارة مرت، لا يذكر أن أحدا صرخ، لا يذكر حادثة قبيحة أو مزعجة، كان بيتها من طابقين، وكان الشتاء قارسا، وكان البيت دافئا، كل زواياه تشع الدفء.. كدفء وطنه البعيد، وكانا ينامان سويا حين ينزل الظلام، وكان صدره دافئا، وكان صدرها أكثر دفئا من صدره.. ومن البيت.. ومن الوطن البعيد.
ذات مرة أمطرت السماء ثلجها القطني، راقباه معا من النافذة الصغيرة فى الطابق الثاني، ملأ الثلج الحديقة الصغيرة الخلفية، راقباه من النافذة الصغيرة تكتسي قطنا، احتضنها.. فنامت على كتفه.
فى الصباح لعبا سويا فى الثلج، بنيا معا رجلا من الجليد، وضعا له أنفا من الخيار، صنعا له عينين من الكرز، وفما صغيرا صغيرا من حبة عنب خضراء.. حين عادا معا الى البيت كان البرد قد تملك منه، غطس فى السرير الصغير، التحف بالبطانية اللبنية، كان ملمسها ناعما ودافئا، وكان وجهها هناك.. قبلته على رأسه وأطفأت له النور.. فنام.
رأى فى نومه قططا عرجاء تنهش وجه رجل الثلج.. شعر باختناق.. شعر أن يديه غائصتان فى الجليد.. شعر بوجهه تنهشه القطط العرجاء.. ورأى القطط السمينة تبتعد والدم يحيط بأنيابها الطويلة.
***
خرج فى الصباح بعد أن تخلص من انزعاجه لدى يقظته.. استقبل شعاع الشمس شاردا.. فتح له القميص، خلع له الكوفيه وغطاء الرأس والقفاز، مرح الأطفال كان غير مزعج على الاطلاق، كانت هناك مقطوعة موسيقية آخذة فى النمو فى أذنيه وكانت الشمس قرصا برتقاليا لطيفا، ولكن الهواء كان باردا قليلا.
كانت هناك غابة بينها وبين البيت الهاديء شارع واحد، شارع آخر هاديء، مشى إليها.. إلى غابة من الأشجار العارية ، مشى فى وسطها قاده الطريق الصغير وسطها الى أعماق الغابة.. إلى جدول متجمد، نظر إلى إحدى الأشجار، وجد أرجوحة مهجورة من صنع الأطفال، جلس عليها وهو يحن الى أرجوحة صنعها حين كان طفلا.. معها.. مع تلك الصغيرة ذات الشعر الأسود الناعم والعينين السوداويين والوجه الأسمر الضاحك.. الغمازتين.. دقة الحسن.. والحسنة الصغيرة على الخد الأيسر.
سقطت به الأرجوحة الضعيفة حين حاول هزها، نظر الى الأحبال المقطوعة وهو على الأرض، وابتسم ابتسامة شاردة.
كانت الأشجار عارية، وكان الجدول متجمدا، تذكر الفتاة السمراء الصغيرة ثانية.. هبت نسائم الوطن.. هجم الماضى عليه، واصطادته الذكريات.
*****
حين عاد إليها.. إلى البيت الدافيء فى الشارع الهاديء.. كان يحن وقتها إلى هدير مزعج يصدره القطار الذي لطالما مر بجوار مدرسته وهو صغير، كان يحن إلى مدرسته الصغيرة، وإلى فتاته الصغيرة، وكان يحن إلى نفسه صغيرا.
واجهها فى غرفة نومها الدافئة، حين استيقظت من النوم كان شعرها الأصفر مبعثر الأطراف على الوسادة الوردية، فتحت عينيها الزرقاوين، لم تلق عليه تحية الصباح ولكنها ابتسمت وسط مغالبة النعاس قائلة له:
" أحبك "
كان يرتعش .. أخذها فى حضنه وقبل رأسها .. حاول أن يخفي اضطرابه.. لكنها نظرت فى عينيه لحظة ثم قالت له إن قلبه يخفق بشدة.. فقال لها بصوته المرتعش:
" أحبك "
****
عاد فى اليوم التالي إلى الغابة، سار فى الطريق الصغير بين الأشجار، كانت الأشجار عارية، وكان الجدول متجمدا.. هتف فى مواجهة الماء الزجاجي فجأة باسم فتاته السمراء.. تدفقت ذكرياته حتى تحرك الماء المتجمد، وتكلمت الأشجار العارية.
كان الحوار قصيرا .. سألته الأشجار عما يريده .. قال إنه لا يعرف.. أعادت الأشجار السؤال.. قال إنه يريد أحد شيئين.. أن يملك الغد.. أو يسترجع الماضي.. وحين سألته الأشجار عن حاضره كان حانقا وقال وهو غاضب إنه لا يراه ، لايستطيع أن يلمسه، لا يستطيع أن يحسه، ولا يستطيع أن يشعر بنفسه فيه.. وتدافعت الذكريات.. قص عن طفولته.. عن مدرسته الصغيرة.. عن صوت القطار المثير للتوتر.. قص عن أصحابه الصغار.. عن الأرجوحة المعلقة على الشجرة الكبيرة فى فناء المدرسة.. ثم قص عن فتاته الصغيرة السمراء..
سكتت الأشجار وتجمد الجدول.. وعاد إليها مبللا بالخيانة.
أعد لها وله الفطور، دخل به إلى غرفة النوم، وقف أمامها، فركت عينيها وهى تقول له مبتسمة:
" أحبــــــك "
لم يأكل معها .. كان شاردا .. كان الهدوء قد استحال مللا .. والدفء صار رتابة.. ووجهها الأبيض غريبا.. عيناها الزرقاوان الطيبتان تدفعانه الى التمرد.. بينما كان شعرها متمردا عنه فى صفرته وتموجه.
نهض .. تمشى فى الغرفة الصغيرة .. التلفت اليها فجأة وقال لها إن عليه أن يرحل.. وقفت قطعة البسكويت مترددة بين القضم والسقوط.. بدت عيناها الطيبتان جريحتين ولكنهما لم تصارحا بالجرح.
****
حمل حقيبته ووقف على باب البيت الأبيض الهاديء.. نظر إلى رجل الثلج الذى بنياه معا نظرة توديع.. ثم استدار إليها.. قبلها على رأسها وهو يبكي وقال:
" لا أعرف لماذا أفعل ذلك.. لا أعرف لماذا علي أن أفعله..
صدقيني.. أرجوك "
ابتسمت وهى تبكي.. قالت له :
"وداعا".
*****
حين جاء الربيع، ازدهرت الحديقة، ولم تعد الأشجار فى الغابة عارية، ولا عاد الجدول ساكنا، وظهرت ملابس الأولاد الملونة.
حين جاء الصيف، خرجت الأولاد ترتدي الملابس الخفيفة، وبدأ الهدوء فى التقلص، واليوم بدأ يطول.
حين جاء الخريف، بدأ العد التنازلى للشتاء، وأسقطت الأشجار أوراقها.
حين عاد الشتاء، كان واقفا على باب بيتها الدافيء فى ذلك الشارع الهاديء يحمل فى يده حقيبة صغيرة، وفى الأخرى زهورا، وكان ينظر إلى شباكها فى الطابق الثاني، والذكريات تهدر.. فى ذلك البيت .. فى تلك الغرفة .. كان ينتظرها أن تفتح له..
وكان البرد قارسا .. قارسا ..
****
فى الصباح.. خرجت الأولاد ترتدي ملابسها الثقيلة وقفازاتها الصوفية فرحة بالرجل الثلجي الذى يبدو أن أحدا قد صنعه بالأمس.. لم يكن عليهم إلا أن يضعوا له كرزا مكان عينيه وثمرة خيار مكان الأنف وفما من العنب، وحين تركوه كان هناك كلب أبيض ينبش الثلج بحثا عن شيء ما يقلقه.. حتى وجد الحقيبة الصغيرة وعلى مقربة منها الزهور التى التحفت بالثلج.

10 comments:

BaSsMa said...

مرحبا
صديقي ممكن تشرحلي النهاية
حسيت منها ممكن يكون الانسان ده رجع بعد خيبة أمل لما ملقهاش وترك شنطته او ممكن تكون هي مرضيتش تفتحله او ممكن يكون اصابه مكروه
وممكن ؟؟
بصراحة مش عارفة احدد
اه وممكن اكون انا لي فهمي تقيل
:D

maha said...

سلام عليك يا استاذ خالد
القصة انا بكتب رائي فيها و انا بقراها
يعني رائ مباشر
:)

"احتضنها.. فنامت على كتفه"
صورة تخيلتها و كانت دافئة جداا

"قبلته على رأسه وأطفأت له النور.. فنام"

بحب اوي لما الرجل و المراه يعاملان كلا منهم علي انهم الام و الاب و الاخت و الاخ و الحبيب و العشيق
كل معني في الدنيا بين الاتنين و ده بيغنيهم عن اي حد تاني في الكون
منتهي الحب و قمة الحياه
:)

"سقطت به الأرجوحة الضعيفة حين حاول هزها، نظر الى الأحبال المقطوعة وهو على الأرض، وابتسم ابتسامة شاردة"
اظن انه حس باللألم و الخوف وقتها و افتكر حلمه ...كلاهما مخيب للامل و ذو عواقب مخيفة

"أخذها فى حضنه وقبل رأسها "
جملة اعتز بها و احلم ان تتحق لي

"يريد أحد شيئين.. أن يملك الغد.. أو يسترجع الماضي."
و من منا لا يريد
اما ليصلح الماضي فلا تكون اخطائه بمثابة طعنات في المستقبل او محاولة لمعرفة ما سيكون الغد فلا يخاف منه

"وحين سألته الأشجار عن حاضره كان حانقا "
و لم لم يفكر في حياته بجوار من يحب و ذلك الدفئ المنبعث من كلمة "احبك "التي يتبادلاها بحب تارة و بخوف من الفراق تارة اخري؟؟

"التلفت اليها فجأة وقال لها إن عليه أن يرحل.. "
لكم كرهت هذا الانسان لحظة قرائتي لتلك الكلمات ...اكره القسوة في الحب و الرحيل دون سبب

"ابتسمت وهى تبكي.. قالت له :
"وداعا"
لكم تألمت ...لكنها كانت قوية

لم ابتعد ان كان يحبها و ان كان يعلم بداخله انه سوف يرجع لها يوما لان الحنين لن يتوقف

اظن انه مات حزنا امام البيت من الانتظار
او انه وجد رجل ثلجي شارك في بنائه مع حبيبته رجل سواه
فسقطت باقة الزهور و معها كل احلام العودة

القصة جميلة حزينه من اغلب قصصك لكنها تشعرني باني داخلها اري ابطالها ..اواسي بعضهم و احتضن البعض

جميلة ..دافئة ...مليئة بالحزن و الحنين و ألم جرح الفراق

جميلة

سلام
مها

FATMA said...

النهاية كانت مفاجئة
و انا بحب النهايات اللي مش واضحة
تحياتي

الخبز و الحرية said...

لا يا باسمة فهمك تمام هي اللي فيها مساحة مفتوحة شوية مش اكثر. حسيتها مناسبة ليها كده.
شكرا مها على اهتمامك الفائق بالتعليق بهذا التفصيل. هو مش فيه حاجة اسمها الندم على ما اضعته من حب؟ متهيألي ده الموضوع بشكل او بآخر. نحن نخطيء في شبابنا المبكر ونضيع الحب احيانا ثم نندم على ذلك بعد سنوات.. يعني.
انا بحب النهايات المفاجئة يا توتة بس مش دايما اجب النهايات المفتوحة بصراحة.. لو موحية اوكيه بس لو مش موحية بتخنق منها.

To a friend said...

قصة جميلة جدا

كتبت تعليق عليها بس كان كبييير فقررت اني انقله الي مدونتي كموضوع

شكرا

basset said...

لا معنى للحياة و لا جدوى منها ما دام حاضرها غير متوازن..و ماضيها قد افلت منا..و اتيها لا ملامح له...

فبركة said...

العبقرى خالد الصاوى
أنا اسمى شريف عبد الهادى صحفى فى موقع بص وطل وجورنال وشوشة ومعد قى برنامج الناس وأنا
بجد إحساس جميل إن علامى يكلم فنان بعيدا عن رسميات الصحافة أو بلاتوهات التصوير
خاصة لو فنان بحترمه طول عمرى من وانا فى أولى ثانوى لما نزل فيلم عبد الناصر اللى انت جسدت فيه شخصية عبد الناصر بعبقرية تفوقت على احمد زكى من وجهة نظرى لكن للأسف حظك وحش وما أنصفكش التاريخ ولا النقاد ولا ساعدتك الظروف
قصتك هايلة ودى أول مرة أدخل مدونتك ومش هتبقى الأخيرة ان شاء الله خاصة انك موهوب فى الكتابة بجد والنهاية المفتوحة للانسان اللى مالاقاش نفسه فى وطنه ولا لقى نفسه فى حشن الغريب وفى النهاية راح ضحية الظروف سواء ظروف بلده او ظروف الطقس اللى مش بترحم كل ده دليل انك فعلا فنان جميل جواك حاجات كتير حلوة
احبك واحترمك
واتمنى زيارتك لى وتدوين ردك فى مدونتى المتواضعة
شريف عبد الهادى

SisSiwar said...

جميلة جدا الأحداث يا صاوي هزتني أربكتني أحزنتني و شوقتني. في بعض الأحيان أتسائل هل أن الحب أقوى أم الحنين إلى الوطن الأهل الماضي لست أدري......برغم الحب الكبيرالمؤنس ظل البطل يشعر بمرارة الوحدة. نهاية ذكية برغم أنني دائماأتوق إلى النهاية السعيدة إلا أني سأعتبرها كذلك بما أنها مفتوحة حتى لا يحزن قلبي . ممتع يا خلود.

GLAMROUS said...

غموض النهايه اطلق لمخيلتى العنان لنهايات كتير

اضافه الى دقتك فى الوصف
بتهتم بتفاصيل دقيقه
حسسستى انى بتفرج على فيلم ولست اقرا
موش محتاجه انى اتخيل الا النهايه بس هتكون ايه

رائع ومميز كعادتك استاذ خالد فى كل اعمالك

تحياتى

Anonymous said...

القصه ممتعه دايما الانسان فاقد الوعى للمنح اللى فايده حب زى ده دفا ونس ممكن يهجره بحثا عن وهم عن سراب ولما يفوق يرجع يلاقى بردو فراغ النهايه منطقيه بس اكتشاف الجثه عن طريق كلب تخض.