خالد الصاوي
في مجتمعاتنا العربية ذعر من الكلمة يترافق معه فزع من الصورة، مثبتان معا على أرض الرغبة الفضولية في إسداء نصح لم يطلب وبسط وصاية عتيقة، تظلهما أشجار الرقابة على الإعلام والفن والأدب والبحث العلمي، يحيطهما سياج أبوي لسلطتي الدولة والدين، تحرسهما نواطير العسس والمحاكم والمعتقلات، ويضيئهما كشاف النفاق العربي بين المرء والآخر، والمرء والعائلة، والمرء والوطن.ربما يأتي ذعرنا العربي من الكلمة من تقديرنا لثوريتها، فنحن موطن القرآن الذي هدم عروش الفرس والروم، أما الصورة فقرون من التحريم لكفيلة ببث الخوف منها دون سبب معقول.في قيعان جماجمنا تختلط القناعات المنطقية بالضلالات الخزعبلية المزمنة، وعلى هذا المزيج الخاص بما فيه من صحيح وباطل شيدنا عقليتنا "العربية" ونفسيتنا التي تدفعنا إلى التآمر على أنفسنا، إذ نقر تحريم الكلمة والصورة ظنا منا أننا هكذا نحمي ذواتنا الضائعة بين غرب مستغِلٍ لا يرحم وشرق مستَغَل لا يتقدم، غير متنبهين إلى أننا بذلك نحجب عقولنا بأيدينا ونبدد ميراث الأجداد.وبعد أن كان تحريم الكلمة والصورة ملكا خاصا للسلطتين السياسية والدينية عبر عصورنا العربية-الإسلامية، انتشر القمع في الخلايا المجتمعية كلها وتخلقت كتائب جديدة للتحريم والتجريم بل والعقاب.صارت هناك سلطة دينية أهلية تنافس السلطة الدينية الرسمية وتنتزع بالعنف مساحة تواجدها رغما عنا، وتحولت النقابات إلى أدوات لمنع العمل الفني الذي يتناول بالنقد أية مهنة، واستأسدت على الإبداع عائلات الشخصيات العامة الراحلة، بل وصار من حق كل إقليم داخل القطر الواحد أن يطالب بمنع العمل الفني الذي ينتسب بطله الدرامي لهذا الإقليم!فإذا أضفنا لثالوث محرماتنا التقليدي ?الدين/السلطة/الجنس- تلك المحرمات المستحدثة، ماديّن الخط على استقامته، فسنرى كيف سيكون الغد مظلما كما لم يظلم ماضينا من قبل أبدا.أكاد لا أصدق أن في تاريخنا فصولا من الجدل والسجال البناء دارت رحاها وسط أمواج القمع المتلاطمة التي لم تنقطع أبدا، ولكن الكتب تؤكد أن في تاريخنا العربي الإسلامي لحظات مشرقة سادت فيها النظرة المتسامحة ?ولا أقول الماجنة- تجاه الكلمة والصورة والموسيقى والعلوم كافة، ولولا ذلك التسامح لتقهقر الإسلام وتقلص في الحجاز بعد فتحه الممالك، ذلك أن كلمة السر لم تكن هي السيف -كما ظن التتر بعد ذلك بقرون- بل الانفتاح على الثقافات المحيطة والتشرب بكل ما جادت به قرائح البشرية من كلمات وصور ونغمات وعلوم.ولقرون طويلة كانت الأصوات تتجاور بين رافض ومؤيد، ومع ذلك عاشت الحضارة العربية الإسلامية أزهى أوقاتها بهذا الجدل وليس بالصوت الأحادي كما يتخيل الكثيرون للأسف، ليس معنى هذا أنها كانت عصورا مطهّرة، ولكنها كانت عصور إبداع وتفاعل وتفتح، وهكذا ينشأ اليوم التناقض العجيب إذ يتباهى المتزمتون والقمعيون جميعا بالتاريخ العربي الإسلامي دون أن يدركوا أن سبب الازدهار كان هو فتح القلب والعين -والعقل في المقام النهائي- للدنيا كلها ولكافة إبداعات الخلق، طبعا كان هناك قمع سياسي دائما ولكن لعصور متعددة كان القمع الديني أخف والقمع العلمي والأدبي والفني شبه مطموس تماما، وفي التاريخ أمثلة أطول من عدد الكلمات في هذا المقال.لقد وصل الأمر بالمواطن العربي إلى استبدال حياته التي لا يستطيع السيطرة عليها بالانتقام من الكلمة أو الصورة التي تفوق احتماله الحضاري.. وهكذا تمت زراعة رقيب مشوش الفكر بارانوي الوجدان في كل واحد منا بما في ذلك من فاعلية واقتصادية!نحن لا نريد تحررا للعقل العربي على طريقة الفيديو كليب، ولكن في سبيل الوصول إلى كنوز الأفكار والفنون لابد أن نحفر بين الركام الغليظ، اتركوا هذا الركام فهو ميت غدا ودعونا ننقب بحرية تامة في مناجم المعرفة والإبداع دون خوف غير مبرر ووصاية لا يملكها أحد منا على أخيه.
No comments:
Post a Comment