أنا وابن عمي نحب الاستهبال وحياة حبيبك خدلنا صورة
كسبنا بعض ف حرب الاستقلال وخسرنا بعض ف لعبة الكورة!
والاستهبال لغةً أن يدعي المرء ما ليس فيه من بله، أما وجه الاستهبال فهو ما سرنا فيه في كلا البلدين ونحن نستعد للقاء كروي هام يتأهل بواسطته أحد منا لكأس العالم، فانتهى الأمر بكراهية تولدت في النفوس، وجراح لن تندمل سريعا، ووضع تراجيكوميك أضحك العدو وأبكى الحبيب.
أما الاستهبال الأكبر فهو وقوع هذه الضغينة الكروية-السياسية بين شعبين عربيين يواجهان نفس التحديات بعينها تقريبا: الاستعمار العالمي والصهيونية من جانب، والفقر والقمع والجهل من جانب آخر.
ويزداد الاستهبال فداحة حين نضع المشهد في سياق السيناريو الشامل:
فبينما يتوحد الفرنساوية والجرمان -وقد كانا متحاربين منذ نصف قرن- في كيان يمزجهما بالطلاينة والإسبان.. إلخ، يتفرق الشعبان المصري والجزائري اللذان قاتلا متعاونين ضد الاستعمار والصهيونية، وبينما يدنس الاحتلال أراضي فلسطين والعراق وأجزاء من سورية ولبنان والمغرب والإمارات، يشتبك العرب سويا على كل شيء ممكن بما في ذلك رياضة كرة القدم المسكينة التي صارت في عصر العولمة الرأسمالية ساحة للاستثمار التجاري والانتعاش الإعلاني والدروشة الإعلامية، ومساحة للاحتكاك السياسي والثقافي، وبؤرة للنعرات الوطنية السطحية.
فلاش باك:
كان لي شرف الظهور في برنامجين مهمين قبل مباراة مصر والجزائر في القاهرة، وفي المرتين أبديت شديد استغرابي من التعامل الشعبي والإعلامي مع المباراة وطالبت بخفض التوتر لسلبيته المفرطة سواء داخل الملعب أو خارجه، كما استهجنت بشدة النظر للجزائر كعدو لا كمجرد منتخب لبلد عربي شقيق يتنافس معنا ونتنافس معه، وهالني ما رأيته على الفيس بوك من وقاحات ضد الجزائر منتخبا وشعبا ودولة، وبالطبع غضبت بشدة مما رأيته من إهانات عكسية تطال الشعب المصري، ودق قلبي بعنف حين بدأنا نتبادل مع الجزائر الاتهامات بشأن ما تردد عن مقتل مشجعين جزائريين في مصر، وقبيل مباراة السودان كنت كمصري أحلم برفع علم بلدي في مونديال 2010، وكنت كعربي أتمنى أن ينتهي الأمر على خير، أما كإنسان فقد كنت شبه واثق من وقوع ما لا يحمد عقباه.. ساخطا على حال شعبين تفتقد غالبيتهما إلى الثروة والسلطة ويختزلان الإنجازات والكرامة والروح الوطنية في كراهية كروية لا يبررها إلا الجهل والتعصب.
معسكر مصر والجزائر:
طوال الخمسينيات والستينيات تشكلت خريطتان للثروة والسلطة في العالم العربي: دول الخليج ذات النظام الملكي وتدور في فلكها الملكيات العربية الأخرى وتدور كلها في المدار الأمريكي الواسع، والجمهوريات العسكرية الوليدة التي التفت جماهيرها حول شعاراتها القومية والاشتراكية مما قربها من الاتحاد السوفييتي.
وفي خمسينيات القرن العشرين دعم المصريون بقوة استقلال الجزائر، وتشكلت جبهة عربية قوية قامت بتصفية الاستعمار القديم في منطقتنا، رحل البريطانيون والفرنسيون وقد نالوا الضربة السياسية القاضية في عدوان 1956، وبقيت إسرائيل وحدها لتقاوم بالأصالة عن الحركة الصهيونية العالمية وبالوكالة عن القوى الاستعمارية المشروع القومي الذي تجسد في جمال عبد الناصر حتى استطاعت الولايات المتحدة وإسرائيل توجيه ضربة موجعة عام 1967 ليس فقط لمصر عبد الناصر، بل للمشروع القومي كله، ومع ذلك بقيت مصر والجزائر في معسكر واحد مع غالبية الدول العربية متشبثين جميعا بأهداب الحلم العربي.
ومع عبور جنود مصر الشجعان لقناة السويس في أكتوبر 1973 كانت الجزائر مع بقية الدول العربية خير داعم لمصر وسورية، لم تكن الجزائر ترد فضل مصر عليها في معركة الاستقلال والتعريب فقط، بل كانت جزءا من منظومة عربية متماسكة ظاهريا مضمونها الوحدة العربية ومقاومة الاستعمار والصهيونية، بينما كان هناك في الكواليس حلفان متعارضان ينموان في الظلام.. حلف التسوية السلمية من جهة، وحلف المواجهة من جهة أخرى، وبمجرد الإعلان عن زيارة السادات التاريخية لإسرائيل انقسم العرب انقساما واضحا.
هل هي أول مرة ينقسم فيها العرب؟ أبدا.. ففي عهد عبد الناصر قاتل المصريون إلى جانب اليمنيين المنقلبين على الإمام ضد اليمنيين الموالين له والسعوديين الذين يدعمونهم، ووقف الجيش المصري في الكويت ضد الجيش العراقي، واشتبكت مصر إعلاميا مع المملكة الأردنية، وقد عبرت هذه المعارك عن فلسفة ناصرية تتبنى الوحدة العربية بملمح اشتراكي مع النضال ضد الاستعمار والرجعية العربية الموالية له.
وهكذا كانت معارك الخمسينيات والستينيات بين الدول العربية هي معارك بين فلسفتين متعارضتين ولم تكن مجرد احتكاكات قبلية لا مبرر لها كما يظن بعض السطحيين.. بل كان هناك سؤال ملح هو: في أي اتجاه نسير؟ هل نتوحد في كيان مستقل ومحايد عن الكتلتين الكبيرتين ونعيد توزيع الثروة بحيث ينعم الجميع، أم نندمج في المنظومة الغربية ونرسخ هرمية الثروة في المجتمعات العربية ونقبل بدور التابعين الراغبين في التقدم على مهل.
لم تكن المشكلة الكبرى في الأفكار بل في الممارسة غير الديمقراطية التي اتبعها القطبان العربيان، فمن المحيط للخليج جماهير لم يؤخذ رأيها في حاضرها ولا في مستقبلها، لم تختر حكامها ولا نوابها بحرية، لا سيطرة لها على ثروتها، إعلامها تابع، قوانينها مفصلة على قياس العشيرة الحاكمة، قضاؤها مكبل، معتقلاتها فسيحة، وإنسانها معوق رغم قوته الهائلة الكامنة.
الطريق إلى غزة:
خلف السادات عبد الناصر فوجد تركة ثقيلة، أنجز العبور ثم قرر استكمال المعركة بالطرق الديبلوماسية، وعلى الصعيد الاجتماعي فعل الانفتاح الاقتصادي فعله فتشكل واقع طبقي جديد، ومقابل الحلم العربي الناصري القديم ولد الحلم المصري الساداتي وقد استجاب له الكثيرون من أبناء مصر لعدة اعتبارات معقدة أولها فشل قيام أي اتحاد عربي من أي نوع، وإحساس المصريين أن الشعوب التي على الجبهة أقدر على تقدير أمورها من الشعوب التي تقع بعيدا عن مرمى النيران، ومرارة مشاعر مواطني الدرجة الثانية التي لاقاها المصريون في عدد من الدول العربية التي عملوا بها رغم أفضال مصر على جميع العرب كما يرى أغلب المصريين، وزاد الأمر سوءا بتهجم وتهكم العرب من المصريين بعد معاهدة السلام رغم أن العرب والمصريين يعرفون جيدا أن السياسات في العالم العربي يصنعها الحكام فقط، وأطلق السادات شعار "مصر أولا" ليدعم انسحاب مصر من الخيار الوحدوي، كما قام بتقوية الجماعات الدينية ليسحق اليسار الشيوعي والناصري فيخلو الجو تماما للمشروع الليبرالي الداعي لدمج مصر في المنظومة الأمريكية وقد صارت له داخل مصر طبقة تحميه.
وخلف مبارك السادات ليجد تركة ثقيلة أخرى، ولكن تم استكمال الطريق الساداتي، واشتبك النظام مع الجماعات الدينية المسلحة التي ورثت ساحة المعارضة السياسية، وكذلك فعل النظام الجزائري مع الحركة الإسلامية في الجزائر، ورغم تعارضهما الواضح في المواقف الإقليمية اتخذ النظامان المصري والجزائري نفس الأسلوب تقريبا في ضرب التيار الإسلامي وتكبيل الحريات السياسية تبعا لذلك.
ورجحت مصر تدريجيا كفة الحلف الخليجي-الأمريكي خصوصا في حرب الخليج عام 1990 ورغم ذلك تزايد فقراؤها، ودعمت الجزائر بقوة "جبهة الصمود والتصدي" ضد الاندماج في الفلك الأمريكي ومع ذلك تزايد فقراؤها.. وفي البلدين المتعارضين سُجّل الكثير من حالات الفساد والتعذيب وتزوير الانتخابات واستغلال السلطة، ومن وجهة نظر محايدة يمكننا القول إننا أمام بلدين متشابهين كثيرا بدءا من نظام الحكم وأساليبه وانتهاء بالتركيبة الاجتماعية والثقافية، نحن أمام شعبين فقدا الكرامة في بلديهما أولا ثم في البلدان العربية والغربية التي استقبلت جحافلهم المهاجرة إليها كأيدي عاملة رخيصة لا ظهر لها، نحن أمام مثقفين مهزومين في كلا البلدين ليس لهزيمة المشروع الوحدوي بالضرورة ولكن لهزيمة المشروع الديمقراطي في الأساس، ولانتصار مشروع التبعية الثقافية في كلا البلدين، ونحن أخيرا أمام جماهير فقيرة خائفة محدودة الوعي، أي باختصار أمام هزيمة مخزية للمشروع النهضوي أصلا.. والموضوع لا يخص مصر والجزائر فقط، فمن المحيط للخليج يمكنك أن تسمع السؤال الذي يصيب أي مواطن بالشلل الرعاش: (إنت ماتعرفش انت بتكلم مين؟؟ ده أنا أوديك ورا الشمس!).. وهذه العبارة تختصر في رأيي كينونة الدولة البوليسية العربية في مقابل الدولة القانونية كما عرفها "العالم المتحضر" على علاته.. وطالما توجد هذه العبارة، طالما لا يمكننا تجاوز الحاضر أبدا.. لا في مصر ولا في الجزائر ولا في أي بلد عربي آخر.
ومع ذلك، قامت هذه الجماهير في مصر وفي الجزائر لتعلن عن أنها لم تزل حية بموجة احتجاج عاتية مع انتفاضة الأقصى عام 2000، وأعقبتها باحتجاجات صاخبة مع احتلال العراق في 2003 وضرب لبنان في 2006 حتى جاءت الحرب على غزة مؤخرا لتقلب المائدة تماما حيث اضطر الشعب المصري لمواجهة نفسه بسؤال وجودي رهيب: ما العمل الآن؟
والمتابع لرسائل الموبايلات وكتابات الإنترنت وقت الحرب على غزة يكتشف أن الوجدان المصري بغالبيته العظمى كان يبكي ألما على أهالي غزة رغم الاختلاف حول حركة حماس، وتشكل وعي عام صامت سأجتهد في تفسيره كما يلي:
(نحن كمصريين نكره الإسرائيليين ونتمنى قتالهم، ونتضامن مع الفلسطينيين ولو لم نكن نرتاح لهم أحيانا وبالذات مع حركة حماس، ولكننا لا نستطيع التورط في هذه الحرب لأننا أضعف من هذه المواجهة، ولا ناقة لنا فيها ولا جمل، ولماذا نتحرك وحدنا بينما العرب ينقسمون ولا يتفقون؟ نريد المساعدة ولكن لا يمكننا فتح معبر رفح حتى لا نتورط في هذه الحرب وكي لا تتحول سيناء إلى مستوطنة فلسطينية.)
وعلى الجانب الآخر كان الجزائريون شعبا ونظاما يهاجمون المصريين -شعبا ونظاما- على غلق معبر رفح، لم يكن الجزائريون فقط من وقفوا ضدنا وقتها، وبغض النظر عن حقنا في اتخاذ الخطوات التي نراها في صالحنا طبعا لابد أن نعترف أن التنديد بغلق معبر رفح أتى وقتها من بلدان عديدة عربية وغير عربية.
ما لا يعرفه الجزائريون أن الموقف في مصر كان معقدا، وبالتالي انبروا في التهجم على اسم مصر، وغضب المصريون طبعا من جميع من هاجموا مصر، وفي غمرة الاندماج الحاصل بين الشعب والنظام في مثل هذه المواقف يتوحد المحكوم بالحاكم والفقير بالغني والجاهل بالمتعلم، ويتم اختصار الجماعة البشرية في علم الدولة، وقد يكون هذا صحيا في حرب الاستقلال الجزائرية أو في معركة العبور المصرية، ولكنه يتحول إلى كارثة كبيرة في أوقات التأزم بين أي نظامين عربيين.. فالإعلام الرسمي في كلا البلدين يقوم ساعتها بعملية غسيل مخ للجماهير فتندفع في كراهية متبادلة، وربما اصطلح النظامان بعدها، ولكن الجراح التي تخلفها النعرة الوطنية على حساب المصالح القومية تبقى طويلا في صدور الجماهير.. ولكي لا يعترض عليّ أي كاره لكلمة قومية، أقول له إنني أتحدث وفي عيني مثال الاتحاد الأوروبي الذي توحد على مصالحه رغم تعدد ألسنته.
مباراة في السفالة:
لا يمكننا فهم أحداث الخرطوم خارج سياقها، فالشحن الذي قام به الإعلام الرياضي أولا ثم تبعه الإعلام الشعبي عبر الإنترنت قبل لقاء القاهرة أوغل في احتقار الآخر، لقد ابتلعت الدولة في مصر وفي الجزائر وجود الإنسان حتى لم يعد له من مساحة للتعبير عن نفسه وعن أحلامه وغضبه إلا في الأفراح والمآتم والموالد والسينمات والمسارح ومباريات الكرة التي تجسد أعلى درجات التنافس المتاحة، كما أن الدولة في كلا البلدين لم تعد قادرة على استمالة الجماهير إلا في الأحداث التي يطيب فيها رفع العلم دون رفع القيود، والتغني بالوطن دون المواطن.
وبالنسبة للمصريين، تكثفت أحلامهم الجماعية في حلم الوصول للمونديال، ورحب الناس جميعا برفع العلم والتغني بمصر، ولعلها أكبر إيجابيات اللحظة من زاوية أن فورة المشاعر الوطنية قد تعيد للأمة بعضا من تماسكها المهدر، وبحث المصريون عن بارقة أمل فوجدوها في منتخب الإنجازات، والتف الشبان والشابات حول اسم مصر الذي تعرض للهجوم أكثر من مرة في السنوات الأخيرة بسبب موقفنا الرسمي في حربي الخليج الثانية والثالثة وحربي لبنان وغزة، ولم يشفع لنا وجود تناقض بين الموقفين الرسمي والشعبي أغلب الوقت لأن التناقض حول المشروع القومي موجود بين قطاعات الشعب نفسه، ومع إهانة المصريين داخل وخارج بلدهم ومحاولات سحب عصا القيادة منهم على المستوى الإقليمي، تركز في العلم المصري في هذه اللحظة كبرياء الأمة المصرية الجريحة.
ومن لحظة نزول المنتخب الجزائري أرض مصر والاحتقان يتصاعد، وترددت شائعات الإعلام الجزائري عن مقتل مشجعين جزائريين، وفزنا بالمباراة بما فيها من تحديات فتصاعدت الهيستيريا الجماعية هنا وهناك، فاندفع المصريون في حالة التغني بالذات ونفي الآخر تماما، واندفع الجزائريون منومين مغناطيسيا بالدعاوى العكسية ليهاجموا بعنف المصالح المصرية بالجزائر، وصار واضحا أن مباراة الخرطوم الترجيحية ستكون مباراة خطيرة على علاقات الشعبين.
لماذا الخرطوم؟
في ظروف طبيعية تصبح ليبيا -وهي الدولة الواقعة بين مصر والجزائر جغرافيا- هي الأقرب للمنطق للعب المباراة، فانتقال جماهير المشجعين ستتم برا وبحرا وجوا، والنظام الليبي مستقر بلا حروب داخلية ولا احتكاكات خارجية مما يوفر له التركيز الأمني المطلوب، ولكن الدولتين المتناحرتين قررتا تصعيب الأمور على بعضهما، فاختارت الجزائر تونس المجاورة لها، واختارت مصر السودان المجاور لها، ومع فوز اختيار مصر للسودان الذي يواجه مشاكل حادة ومسلحة في الغرب وفي الجنوب لابد أن تبتلع أولوياته الأمنية، ومع المدلولات "الوطنية" للتأهل للمونديال في كلا البلدين المتنافسين، شحنت الجزائر جماهيرها الرثة الغاضبة في طائرات عسكرية كما حدثنا الشهود، بينما قررت مصر استكمال استعراضها الكروي-الوطني فأرسلت الفنانين والإعلاميين ليتصدروا مشهد التشجيع، وجند السودان قرابة 20 ألف جندي أمن كما قال لتأمين المباراة.
الإخوة الأعداء:
يحدثنا الشهود عن حالة إرهاب معنوي مارسها المشجعون الجزائريون على المنتخب والمشجعين المصريين من لحظة وصولهم للخرطوم، فقد جابوا شوارع العاصمة من عدة أيام ليشتروا الأسلحة البيضاء، وتم تصويرهم يلوحون بها في المدرجات بما يضع الأمن السوداني في ركن غير محمود، وبعد المباراة التي خسرها المصريون بدأت المهزلة الحقيقية.. آلاف الجزائريين يهاجمون المصريين بشوارع الخرطوم وفي طريقهم للمطار، المصريون يستصرخون الدولة المصرية من مخابئهم في السودان، الجزائريون بحسب أقوال الشهود كانوا يستهدفون الدم المصري بوضوح.. مرة بسبب رأيهم فيهم إبان أحداث غزة، ومرة بسبب شائعات قتل الجزائريين في مصر، وتحت الجلد ما هو أعمق حيث لم يكف المصريون والجزائريون من فترة طويلة عن الاحتكاك ببعضهم رسميا وشعبيا وفي دوائر المثقفين أيضا كأثر واضح لخلخلة المشروع القومي وعلو النبرة الوطنية المتعصبة والمغلفة ببارانويا التفوق في كلا البلدين.. وقد ساهم في حدوث هذه المهزلة أن نوعية مشجعي الجزائر كانت مختلفة عن نوعية المشجعين المصريين، مع ضعف الأمن السوداني للأسف.
وتطورت الكراهية سريعا، ولا أنكر أنني كنت مصدوما من الهجوم على المصريين، وتمنيت من كل قلبي أن تقوم الدولة بإرسال قوات خاصة لإنقاذ المصريين وتأديب البلطجية من مشجعي الجزائر رغم ما قد يؤدي إليه هذا التصرف من احتقان كبير بين مصر من جهة والجزائر والسودان من جهة أخرى، ولكنني سرعان ما تأملت المشهد من كل جوانبه فوصلت لضرورة إجراء تحقيق موسع تشارك فيه الجهات الأهلية والرسمية في البلدان الثلاثة بهدف معرفة من المسئول عما جرى من أحداث عنيفة في العواصم الثلاث، ومن وقائع إعلامية -هي بالأصح وقيعة إعلامية- يجب إدانتها خصوصا حين نتأمل المشهد العربي برمته فنرى إسرائيل في هذه اللحظة تسرع من تهويد القدس وتهاجم الفلسطينيين في غزة والضفة وتعرقل إعلان الدولة الفلسطينية، وهذا كله جزء من كل مهين للعرب من المحيط للخليج.
ما العمل إذن؟
نريد تحقيقا شاملا: من بدأ البذاءات أولا؟ من الذي استثمر حالة العداء ووجهها؟ من ألقى الحجر على حافلة المنتخب الجزائري في مصر؟ من المسئول عن شائعات قتل المشجعين الجزائريين هنا؟ وهل هناك أية حادثة اعتداء حقيقية؟ هل صحيح أن الدولة الجزائرية شحنت عمدا بعض أصحاب السوابق إلى السودان؟ أين كان الأمن السوداني حينما جمع الجزائريون الأسلحة البيضاء؟ وكيف دخلوا بها المدرجات؟ أين كان الأمن السوداني حين تعرض المصريون للهجوم المستمر عدة ساعات؟ ماذا فعلت الدولة المصرية للاستعداد لتلك المباراة وماذا فعلت لنجدة المصريين؟ وماذا ستفعل الآن لرد اعتبارهم وقد أهينوا؟ نريد محاكمات في الخرطوم وفي الجزائر للمشاغبين المسلحين، ونريد اعتذارا من الشعبين قبل الدولتين، على أن نقوم نحن أيضا بالاعتراف بأننا تجاوزنا الخطوط القويمة حينما أوسعنا الشعب الجزائري بالمهانة قبل مباراتي القاهرة والخرطوم، وليتحمل كل مخطيء مسئوليته.
نعم، نريد تحقيقا شاملا ونريده أن يكون أهليا ورسميا معا وعلى درجة عالية من الشفافية، ونريد للعقلاء هنا وهناك أن يفضحوا الممارسات المنحطة ويدينوها أيا ما كان مصدرها।
كسبنا بعض ف حرب الاستقلال وخسرنا بعض ف لعبة الكورة!
والاستهبال لغةً أن يدعي المرء ما ليس فيه من بله، أما وجه الاستهبال فهو ما سرنا فيه في كلا البلدين ونحن نستعد للقاء كروي هام يتأهل بواسطته أحد منا لكأس العالم، فانتهى الأمر بكراهية تولدت في النفوس، وجراح لن تندمل سريعا، ووضع تراجيكوميك أضحك العدو وأبكى الحبيب.
أما الاستهبال الأكبر فهو وقوع هذه الضغينة الكروية-السياسية بين شعبين عربيين يواجهان نفس التحديات بعينها تقريبا: الاستعمار العالمي والصهيونية من جانب، والفقر والقمع والجهل من جانب آخر.
ويزداد الاستهبال فداحة حين نضع المشهد في سياق السيناريو الشامل:
فبينما يتوحد الفرنساوية والجرمان -وقد كانا متحاربين منذ نصف قرن- في كيان يمزجهما بالطلاينة والإسبان.. إلخ، يتفرق الشعبان المصري والجزائري اللذان قاتلا متعاونين ضد الاستعمار والصهيونية، وبينما يدنس الاحتلال أراضي فلسطين والعراق وأجزاء من سورية ولبنان والمغرب والإمارات، يشتبك العرب سويا على كل شيء ممكن بما في ذلك رياضة كرة القدم المسكينة التي صارت في عصر العولمة الرأسمالية ساحة للاستثمار التجاري والانتعاش الإعلاني والدروشة الإعلامية، ومساحة للاحتكاك السياسي والثقافي، وبؤرة للنعرات الوطنية السطحية.
فلاش باك:
كان لي شرف الظهور في برنامجين مهمين قبل مباراة مصر والجزائر في القاهرة، وفي المرتين أبديت شديد استغرابي من التعامل الشعبي والإعلامي مع المباراة وطالبت بخفض التوتر لسلبيته المفرطة سواء داخل الملعب أو خارجه، كما استهجنت بشدة النظر للجزائر كعدو لا كمجرد منتخب لبلد عربي شقيق يتنافس معنا ونتنافس معه، وهالني ما رأيته على الفيس بوك من وقاحات ضد الجزائر منتخبا وشعبا ودولة، وبالطبع غضبت بشدة مما رأيته من إهانات عكسية تطال الشعب المصري، ودق قلبي بعنف حين بدأنا نتبادل مع الجزائر الاتهامات بشأن ما تردد عن مقتل مشجعين جزائريين في مصر، وقبيل مباراة السودان كنت كمصري أحلم برفع علم بلدي في مونديال 2010، وكنت كعربي أتمنى أن ينتهي الأمر على خير، أما كإنسان فقد كنت شبه واثق من وقوع ما لا يحمد عقباه.. ساخطا على حال شعبين تفتقد غالبيتهما إلى الثروة والسلطة ويختزلان الإنجازات والكرامة والروح الوطنية في كراهية كروية لا يبررها إلا الجهل والتعصب.
معسكر مصر والجزائر:
طوال الخمسينيات والستينيات تشكلت خريطتان للثروة والسلطة في العالم العربي: دول الخليج ذات النظام الملكي وتدور في فلكها الملكيات العربية الأخرى وتدور كلها في المدار الأمريكي الواسع، والجمهوريات العسكرية الوليدة التي التفت جماهيرها حول شعاراتها القومية والاشتراكية مما قربها من الاتحاد السوفييتي.
وفي خمسينيات القرن العشرين دعم المصريون بقوة استقلال الجزائر، وتشكلت جبهة عربية قوية قامت بتصفية الاستعمار القديم في منطقتنا، رحل البريطانيون والفرنسيون وقد نالوا الضربة السياسية القاضية في عدوان 1956، وبقيت إسرائيل وحدها لتقاوم بالأصالة عن الحركة الصهيونية العالمية وبالوكالة عن القوى الاستعمارية المشروع القومي الذي تجسد في جمال عبد الناصر حتى استطاعت الولايات المتحدة وإسرائيل توجيه ضربة موجعة عام 1967 ليس فقط لمصر عبد الناصر، بل للمشروع القومي كله، ومع ذلك بقيت مصر والجزائر في معسكر واحد مع غالبية الدول العربية متشبثين جميعا بأهداب الحلم العربي.
ومع عبور جنود مصر الشجعان لقناة السويس في أكتوبر 1973 كانت الجزائر مع بقية الدول العربية خير داعم لمصر وسورية، لم تكن الجزائر ترد فضل مصر عليها في معركة الاستقلال والتعريب فقط، بل كانت جزءا من منظومة عربية متماسكة ظاهريا مضمونها الوحدة العربية ومقاومة الاستعمار والصهيونية، بينما كان هناك في الكواليس حلفان متعارضان ينموان في الظلام.. حلف التسوية السلمية من جهة، وحلف المواجهة من جهة أخرى، وبمجرد الإعلان عن زيارة السادات التاريخية لإسرائيل انقسم العرب انقساما واضحا.
هل هي أول مرة ينقسم فيها العرب؟ أبدا.. ففي عهد عبد الناصر قاتل المصريون إلى جانب اليمنيين المنقلبين على الإمام ضد اليمنيين الموالين له والسعوديين الذين يدعمونهم، ووقف الجيش المصري في الكويت ضد الجيش العراقي، واشتبكت مصر إعلاميا مع المملكة الأردنية، وقد عبرت هذه المعارك عن فلسفة ناصرية تتبنى الوحدة العربية بملمح اشتراكي مع النضال ضد الاستعمار والرجعية العربية الموالية له.
وهكذا كانت معارك الخمسينيات والستينيات بين الدول العربية هي معارك بين فلسفتين متعارضتين ولم تكن مجرد احتكاكات قبلية لا مبرر لها كما يظن بعض السطحيين.. بل كان هناك سؤال ملح هو: في أي اتجاه نسير؟ هل نتوحد في كيان مستقل ومحايد عن الكتلتين الكبيرتين ونعيد توزيع الثروة بحيث ينعم الجميع، أم نندمج في المنظومة الغربية ونرسخ هرمية الثروة في المجتمعات العربية ونقبل بدور التابعين الراغبين في التقدم على مهل.
لم تكن المشكلة الكبرى في الأفكار بل في الممارسة غير الديمقراطية التي اتبعها القطبان العربيان، فمن المحيط للخليج جماهير لم يؤخذ رأيها في حاضرها ولا في مستقبلها، لم تختر حكامها ولا نوابها بحرية، لا سيطرة لها على ثروتها، إعلامها تابع، قوانينها مفصلة على قياس العشيرة الحاكمة، قضاؤها مكبل، معتقلاتها فسيحة، وإنسانها معوق رغم قوته الهائلة الكامنة.
الطريق إلى غزة:
خلف السادات عبد الناصر فوجد تركة ثقيلة، أنجز العبور ثم قرر استكمال المعركة بالطرق الديبلوماسية، وعلى الصعيد الاجتماعي فعل الانفتاح الاقتصادي فعله فتشكل واقع طبقي جديد، ومقابل الحلم العربي الناصري القديم ولد الحلم المصري الساداتي وقد استجاب له الكثيرون من أبناء مصر لعدة اعتبارات معقدة أولها فشل قيام أي اتحاد عربي من أي نوع، وإحساس المصريين أن الشعوب التي على الجبهة أقدر على تقدير أمورها من الشعوب التي تقع بعيدا عن مرمى النيران، ومرارة مشاعر مواطني الدرجة الثانية التي لاقاها المصريون في عدد من الدول العربية التي عملوا بها رغم أفضال مصر على جميع العرب كما يرى أغلب المصريين، وزاد الأمر سوءا بتهجم وتهكم العرب من المصريين بعد معاهدة السلام رغم أن العرب والمصريين يعرفون جيدا أن السياسات في العالم العربي يصنعها الحكام فقط، وأطلق السادات شعار "مصر أولا" ليدعم انسحاب مصر من الخيار الوحدوي، كما قام بتقوية الجماعات الدينية ليسحق اليسار الشيوعي والناصري فيخلو الجو تماما للمشروع الليبرالي الداعي لدمج مصر في المنظومة الأمريكية وقد صارت له داخل مصر طبقة تحميه.
وخلف مبارك السادات ليجد تركة ثقيلة أخرى، ولكن تم استكمال الطريق الساداتي، واشتبك النظام مع الجماعات الدينية المسلحة التي ورثت ساحة المعارضة السياسية، وكذلك فعل النظام الجزائري مع الحركة الإسلامية في الجزائر، ورغم تعارضهما الواضح في المواقف الإقليمية اتخذ النظامان المصري والجزائري نفس الأسلوب تقريبا في ضرب التيار الإسلامي وتكبيل الحريات السياسية تبعا لذلك.
ورجحت مصر تدريجيا كفة الحلف الخليجي-الأمريكي خصوصا في حرب الخليج عام 1990 ورغم ذلك تزايد فقراؤها، ودعمت الجزائر بقوة "جبهة الصمود والتصدي" ضد الاندماج في الفلك الأمريكي ومع ذلك تزايد فقراؤها.. وفي البلدين المتعارضين سُجّل الكثير من حالات الفساد والتعذيب وتزوير الانتخابات واستغلال السلطة، ومن وجهة نظر محايدة يمكننا القول إننا أمام بلدين متشابهين كثيرا بدءا من نظام الحكم وأساليبه وانتهاء بالتركيبة الاجتماعية والثقافية، نحن أمام شعبين فقدا الكرامة في بلديهما أولا ثم في البلدان العربية والغربية التي استقبلت جحافلهم المهاجرة إليها كأيدي عاملة رخيصة لا ظهر لها، نحن أمام مثقفين مهزومين في كلا البلدين ليس لهزيمة المشروع الوحدوي بالضرورة ولكن لهزيمة المشروع الديمقراطي في الأساس، ولانتصار مشروع التبعية الثقافية في كلا البلدين، ونحن أخيرا أمام جماهير فقيرة خائفة محدودة الوعي، أي باختصار أمام هزيمة مخزية للمشروع النهضوي أصلا.. والموضوع لا يخص مصر والجزائر فقط، فمن المحيط للخليج يمكنك أن تسمع السؤال الذي يصيب أي مواطن بالشلل الرعاش: (إنت ماتعرفش انت بتكلم مين؟؟ ده أنا أوديك ورا الشمس!).. وهذه العبارة تختصر في رأيي كينونة الدولة البوليسية العربية في مقابل الدولة القانونية كما عرفها "العالم المتحضر" على علاته.. وطالما توجد هذه العبارة، طالما لا يمكننا تجاوز الحاضر أبدا.. لا في مصر ولا في الجزائر ولا في أي بلد عربي آخر.
ومع ذلك، قامت هذه الجماهير في مصر وفي الجزائر لتعلن عن أنها لم تزل حية بموجة احتجاج عاتية مع انتفاضة الأقصى عام 2000، وأعقبتها باحتجاجات صاخبة مع احتلال العراق في 2003 وضرب لبنان في 2006 حتى جاءت الحرب على غزة مؤخرا لتقلب المائدة تماما حيث اضطر الشعب المصري لمواجهة نفسه بسؤال وجودي رهيب: ما العمل الآن؟
والمتابع لرسائل الموبايلات وكتابات الإنترنت وقت الحرب على غزة يكتشف أن الوجدان المصري بغالبيته العظمى كان يبكي ألما على أهالي غزة رغم الاختلاف حول حركة حماس، وتشكل وعي عام صامت سأجتهد في تفسيره كما يلي:
(نحن كمصريين نكره الإسرائيليين ونتمنى قتالهم، ونتضامن مع الفلسطينيين ولو لم نكن نرتاح لهم أحيانا وبالذات مع حركة حماس، ولكننا لا نستطيع التورط في هذه الحرب لأننا أضعف من هذه المواجهة، ولا ناقة لنا فيها ولا جمل، ولماذا نتحرك وحدنا بينما العرب ينقسمون ولا يتفقون؟ نريد المساعدة ولكن لا يمكننا فتح معبر رفح حتى لا نتورط في هذه الحرب وكي لا تتحول سيناء إلى مستوطنة فلسطينية.)
وعلى الجانب الآخر كان الجزائريون شعبا ونظاما يهاجمون المصريين -شعبا ونظاما- على غلق معبر رفح، لم يكن الجزائريون فقط من وقفوا ضدنا وقتها، وبغض النظر عن حقنا في اتخاذ الخطوات التي نراها في صالحنا طبعا لابد أن نعترف أن التنديد بغلق معبر رفح أتى وقتها من بلدان عديدة عربية وغير عربية.
ما لا يعرفه الجزائريون أن الموقف في مصر كان معقدا، وبالتالي انبروا في التهجم على اسم مصر، وغضب المصريون طبعا من جميع من هاجموا مصر، وفي غمرة الاندماج الحاصل بين الشعب والنظام في مثل هذه المواقف يتوحد المحكوم بالحاكم والفقير بالغني والجاهل بالمتعلم، ويتم اختصار الجماعة البشرية في علم الدولة، وقد يكون هذا صحيا في حرب الاستقلال الجزائرية أو في معركة العبور المصرية، ولكنه يتحول إلى كارثة كبيرة في أوقات التأزم بين أي نظامين عربيين.. فالإعلام الرسمي في كلا البلدين يقوم ساعتها بعملية غسيل مخ للجماهير فتندفع في كراهية متبادلة، وربما اصطلح النظامان بعدها، ولكن الجراح التي تخلفها النعرة الوطنية على حساب المصالح القومية تبقى طويلا في صدور الجماهير.. ولكي لا يعترض عليّ أي كاره لكلمة قومية، أقول له إنني أتحدث وفي عيني مثال الاتحاد الأوروبي الذي توحد على مصالحه رغم تعدد ألسنته.
مباراة في السفالة:
لا يمكننا فهم أحداث الخرطوم خارج سياقها، فالشحن الذي قام به الإعلام الرياضي أولا ثم تبعه الإعلام الشعبي عبر الإنترنت قبل لقاء القاهرة أوغل في احتقار الآخر، لقد ابتلعت الدولة في مصر وفي الجزائر وجود الإنسان حتى لم يعد له من مساحة للتعبير عن نفسه وعن أحلامه وغضبه إلا في الأفراح والمآتم والموالد والسينمات والمسارح ومباريات الكرة التي تجسد أعلى درجات التنافس المتاحة، كما أن الدولة في كلا البلدين لم تعد قادرة على استمالة الجماهير إلا في الأحداث التي يطيب فيها رفع العلم دون رفع القيود، والتغني بالوطن دون المواطن.
وبالنسبة للمصريين، تكثفت أحلامهم الجماعية في حلم الوصول للمونديال، ورحب الناس جميعا برفع العلم والتغني بمصر، ولعلها أكبر إيجابيات اللحظة من زاوية أن فورة المشاعر الوطنية قد تعيد للأمة بعضا من تماسكها المهدر، وبحث المصريون عن بارقة أمل فوجدوها في منتخب الإنجازات، والتف الشبان والشابات حول اسم مصر الذي تعرض للهجوم أكثر من مرة في السنوات الأخيرة بسبب موقفنا الرسمي في حربي الخليج الثانية والثالثة وحربي لبنان وغزة، ولم يشفع لنا وجود تناقض بين الموقفين الرسمي والشعبي أغلب الوقت لأن التناقض حول المشروع القومي موجود بين قطاعات الشعب نفسه، ومع إهانة المصريين داخل وخارج بلدهم ومحاولات سحب عصا القيادة منهم على المستوى الإقليمي، تركز في العلم المصري في هذه اللحظة كبرياء الأمة المصرية الجريحة.
ومن لحظة نزول المنتخب الجزائري أرض مصر والاحتقان يتصاعد، وترددت شائعات الإعلام الجزائري عن مقتل مشجعين جزائريين، وفزنا بالمباراة بما فيها من تحديات فتصاعدت الهيستيريا الجماعية هنا وهناك، فاندفع المصريون في حالة التغني بالذات ونفي الآخر تماما، واندفع الجزائريون منومين مغناطيسيا بالدعاوى العكسية ليهاجموا بعنف المصالح المصرية بالجزائر، وصار واضحا أن مباراة الخرطوم الترجيحية ستكون مباراة خطيرة على علاقات الشعبين.
لماذا الخرطوم؟
في ظروف طبيعية تصبح ليبيا -وهي الدولة الواقعة بين مصر والجزائر جغرافيا- هي الأقرب للمنطق للعب المباراة، فانتقال جماهير المشجعين ستتم برا وبحرا وجوا، والنظام الليبي مستقر بلا حروب داخلية ولا احتكاكات خارجية مما يوفر له التركيز الأمني المطلوب، ولكن الدولتين المتناحرتين قررتا تصعيب الأمور على بعضهما، فاختارت الجزائر تونس المجاورة لها، واختارت مصر السودان المجاور لها، ومع فوز اختيار مصر للسودان الذي يواجه مشاكل حادة ومسلحة في الغرب وفي الجنوب لابد أن تبتلع أولوياته الأمنية، ومع المدلولات "الوطنية" للتأهل للمونديال في كلا البلدين المتنافسين، شحنت الجزائر جماهيرها الرثة الغاضبة في طائرات عسكرية كما حدثنا الشهود، بينما قررت مصر استكمال استعراضها الكروي-الوطني فأرسلت الفنانين والإعلاميين ليتصدروا مشهد التشجيع، وجند السودان قرابة 20 ألف جندي أمن كما قال لتأمين المباراة.
الإخوة الأعداء:
يحدثنا الشهود عن حالة إرهاب معنوي مارسها المشجعون الجزائريون على المنتخب والمشجعين المصريين من لحظة وصولهم للخرطوم، فقد جابوا شوارع العاصمة من عدة أيام ليشتروا الأسلحة البيضاء، وتم تصويرهم يلوحون بها في المدرجات بما يضع الأمن السوداني في ركن غير محمود، وبعد المباراة التي خسرها المصريون بدأت المهزلة الحقيقية.. آلاف الجزائريين يهاجمون المصريين بشوارع الخرطوم وفي طريقهم للمطار، المصريون يستصرخون الدولة المصرية من مخابئهم في السودان، الجزائريون بحسب أقوال الشهود كانوا يستهدفون الدم المصري بوضوح.. مرة بسبب رأيهم فيهم إبان أحداث غزة، ومرة بسبب شائعات قتل الجزائريين في مصر، وتحت الجلد ما هو أعمق حيث لم يكف المصريون والجزائريون من فترة طويلة عن الاحتكاك ببعضهم رسميا وشعبيا وفي دوائر المثقفين أيضا كأثر واضح لخلخلة المشروع القومي وعلو النبرة الوطنية المتعصبة والمغلفة ببارانويا التفوق في كلا البلدين.. وقد ساهم في حدوث هذه المهزلة أن نوعية مشجعي الجزائر كانت مختلفة عن نوعية المشجعين المصريين، مع ضعف الأمن السوداني للأسف.
وتطورت الكراهية سريعا، ولا أنكر أنني كنت مصدوما من الهجوم على المصريين، وتمنيت من كل قلبي أن تقوم الدولة بإرسال قوات خاصة لإنقاذ المصريين وتأديب البلطجية من مشجعي الجزائر رغم ما قد يؤدي إليه هذا التصرف من احتقان كبير بين مصر من جهة والجزائر والسودان من جهة أخرى، ولكنني سرعان ما تأملت المشهد من كل جوانبه فوصلت لضرورة إجراء تحقيق موسع تشارك فيه الجهات الأهلية والرسمية في البلدان الثلاثة بهدف معرفة من المسئول عما جرى من أحداث عنيفة في العواصم الثلاث، ومن وقائع إعلامية -هي بالأصح وقيعة إعلامية- يجب إدانتها خصوصا حين نتأمل المشهد العربي برمته فنرى إسرائيل في هذه اللحظة تسرع من تهويد القدس وتهاجم الفلسطينيين في غزة والضفة وتعرقل إعلان الدولة الفلسطينية، وهذا كله جزء من كل مهين للعرب من المحيط للخليج.
ما العمل إذن؟
نريد تحقيقا شاملا: من بدأ البذاءات أولا؟ من الذي استثمر حالة العداء ووجهها؟ من ألقى الحجر على حافلة المنتخب الجزائري في مصر؟ من المسئول عن شائعات قتل المشجعين الجزائريين هنا؟ وهل هناك أية حادثة اعتداء حقيقية؟ هل صحيح أن الدولة الجزائرية شحنت عمدا بعض أصحاب السوابق إلى السودان؟ أين كان الأمن السوداني حينما جمع الجزائريون الأسلحة البيضاء؟ وكيف دخلوا بها المدرجات؟ أين كان الأمن السوداني حين تعرض المصريون للهجوم المستمر عدة ساعات؟ ماذا فعلت الدولة المصرية للاستعداد لتلك المباراة وماذا فعلت لنجدة المصريين؟ وماذا ستفعل الآن لرد اعتبارهم وقد أهينوا؟ نريد محاكمات في الخرطوم وفي الجزائر للمشاغبين المسلحين، ونريد اعتذارا من الشعبين قبل الدولتين، على أن نقوم نحن أيضا بالاعتراف بأننا تجاوزنا الخطوط القويمة حينما أوسعنا الشعب الجزائري بالمهانة قبل مباراتي القاهرة والخرطوم، وليتحمل كل مخطيء مسئوليته.
نعم، نريد تحقيقا شاملا ونريده أن يكون أهليا ورسميا معا وعلى درجة عالية من الشفافية، ونريد للعقلاء هنا وهناك أن يفضحوا الممارسات المنحطة ويدينوها أيا ما كان مصدرها।
(نشر في الدستور الأسبوعي في الخامس والعشرين من نوفمبر)