Sunday, February 25, 2007

الهوامش

كان شابا رائعا !!!!
كان مولعا بالقراءة الى حد بعيد ، يصرف كل وقته فى استكشاف الكتب التى كان كل كتاب مغلق فيها يشده شدا لا يقاوم كى يفتحه ويعرف ما بداخله، كل كتاب مغلق لغز ... كل كتاب مغلق قضية ، هكذا كان يفكر .
كان يقرأ منذ كان طفلا ولهذا صار مراهقا قارئا وهكذا وجد نفسه شابا يمارس القراءة بانتظام وسلاسة.. ( ولكنه فى الواقع لم يمارس غير القراءة منذ كان طفلا، ولهذا ارتبط بالقراءة اكثر فأكثر ، المهم... المهم..) التحق بكلية الحقوق.. بدأت دراسة القانون تثير حماسته وفضوله ، وفى احدى الأمسيات الباردة من شهرديسمبر كان يدرس مادة تاريخ القانون التى أشعلت فى نفسه الرغبة لمعرفتها أكثر فأكثر ..
انتبه الى شىء لم يكن يقرؤه من قبل فى أى كتاب بل كان لا يفكر فى المرور به مطلقا انه الهامش أسفل الكتاب .
اكتشف أن هذا الهامش مهم للغاية ، للغاية ، لقد وجد أن هناك مراجع يمكنه بها الاستزادة من التعرف على المادة ، كف عن الدراسة وعكف على افراغ كافة الهوامش من كتاب تاريخ القانون فى دفتر على أمل أن يقرأ هذه الكتب فيما بعد .
صارت عادة لديه ان يوجه عينيه الى الهوامش أولا بأول، كانت أحيانا تقابله فى الهوامش أشياء تثير أعصابه من عينة " المرجع المذكور آنفا " ، او التواريخ الكثيرة والارقام التى تملأ الهامش او كلمات المؤلف الجانبية .
هو لا ير يد مثل هذه الجمل الاعتراضية هو يريد الكتب فحسب يريد عناوين الكتب فى الهامش لكى يعرف اكثر عن نفس الموضوع .. انها متعة !!
بدأ اهتمامه بالهامش يتزايد عاما بعد عام ، حين أنهى دراسته الحقوقية صار يمتلك سبعة دفاتر كاملة ملأى بعناوين مراجع محلية ، أجنبية فى مختلف فروع القانون ، الاقتصاد والتاريخ والاجتماع و ... و ... و ... ( المواضيع تتشابك ) وكان قد قرأ بعضا منها ولازال أغلبها مقيدا كعناوين فى "دفتر الهوامش" كما كان يسميه ( المواضيع تنبع من الموضوع الواحد تتفرع وتتشابك تتباعد وتتلاصق تصير شجرة المواضيع كبيرة كبيرة ).
أراد استكمال الدراسة ، عليه الآن الحصول على دبلومين يوازيان درجة الماجستير، ولذلك، فقد قرر فى هذه الفترة – من بعد ان كابد مصاعب كثيرة بخصوص مسألة كثرة المراجع بين يديه- قرر ان يكتفى بالقليل من المراجع حتى يتمكن من الانجاز فى الوقت المتاح ( حسبما نصحوه !) .
بدأ يعانى من أنه كثيرا ما يضبط عينيه تتسللان من أعلى الصفحات بمجرد قلبها الى الهوامش ( رغما عنه وعنها ) كان يصرف فى اليوم الواحد حوالى 15 ساعة فى القراءة .. استقر فى المنزل ( طبعا ) صرف النظر عن التمرين فى مكتب محاماة لقد اكتشف رسالته ! لن يكون محاميا جيدا فهو يشعر فى نفسه مشروع فقيه قانونى متميز .
اقترب موعد الامتحان ، بدأ يعانى من عدم التركيز ... فهو يركز بداية فى المادة ثم يركز فى منع نفسه من النزول الى الهامش وتدوين مراجعه ، ثم يركز فى صرف انتباهه عن الهامش ، ثم فى عدم الانصياع لقرار تدوين المراجع ، ثم فى تأجيل القرار إلى أن ينتهى من تفريغ هذا الهامش فقط !!
هذه هى الفعلة الرائدة التى سيمنع بها عينيه من التجول فى أرجاء الصفحة ، ورق لاصق بلون داكن لتغطية كل الهوامش!
استراح كثيرا بعد ذلك حى انتهى الامتحان . بعد حصوله على الدبلوم ، أخرج كل الكتب المشمعة هوامشها محاولا تنحية اللاصق جانبا مما أفسد ورق الكتب كليا ، ولذلك كان عليه ان يشترى من جديد كل الكتب التى عكف على دراستها فى العام الذى انتهى ليمارس هوايته من جديد ... تفريغ الهوامش .
مده والده بمبلغ ضخم لكى يتزوج ، ولكنه لم يتزوج فى الحقيقة لقد كانت فى ذهنه فكرة ثانية.. يجب شراء كافة المراجع المدونة فى دفاتر الهوامش .
استطاع بالفعل الحصول على 80% من الكتب اللازمة ، الباقى كان كتبا أجنبية بعث الى أقاربه فى الخارج بعناوينها ( بما تبقى من المال لديه !!) زادت ساعات القراءة الى 20 ساعة يوميا ، نقص عدد ساعات النوم .
اكتشف اكتشافا مذهلا ... لا مناص من الرجوع الى المراجع التى تقبع عناوينها فى أسفل صفحات الكتب التى اشتراها حديثا ( وقد كانت من قبل مراجع ) .
عاد من جديد الى تفريغ الهوامش !!
لم يتمكن فى العام التالى من تكرار وضع اللاصق الذى يفسد الورق ، لكنه استطاع بعد عناء بالغ تكثيف قراءاته وحصرها فى مواد الدرس حتى حصل على الدبلوم الثانى .
بدأ يستعد لدرجة الدكتوراة كان فى منتهى السعادة وهو يشعر بأن أمامه متسعا من الوقت ليقرأ فيه كل المراجع التى أحضرها والمراجع التى سوف يحضرها ، اشترى مراجع أخرى ، لم يحدد حتى تلك اللحظة موضوع رسالته .
( ألوف المواضيع تطرح مواضيع أخرى فى الرأس ... تتطاير الأفكار الأخرى فى الرأس ... تلتمّ وتتفجر مواضيع أخرى .. ) كان كل كتاب يحيله الى كتب أخرى .
أراد أن يخوض حربا مع الهوامش ، يحصر موضوعا ويتابعه فى كل مراجعه ، المراجع كثيرة كل منها يشير الى كتب اخرى كثيرة ... دائرة مغلقة .. غاية فى الاتساع !
توفى والده بعد خمس سنوات ظل يحاول فيها أن يكتب حرفا دون جدوى ، كل الوقت تبلعه القراءة ... ( 21 ساعة ونصف ) بصره يضعف وعيناه تخوران .. صار نحيفا بشكل مرعب ... عظمات وجهه برزت بفضول.. اضطر الى العمل بعد وفاة والـــده (لا مورد ) كان حزينا مع نزوله الى العمل ( لا مناص ) .
يعود ليلا فيقرأ حتى ينزل عمله فى الصباح ( ينام حين يتذكر ) ، ولكنه ما عاد يقوى على متابعة الهوامش ، صارت تستفزه تحطم أعصابه ، كل كتاب يصور فى وجهه كتابا آخر وكتابين وألف كتاب ... أين نهاية المواضيع ؟
( الموضوع ممتد فى عينيه ، لا أول له ولا آخر )
حدث حدث هام فى حياته بعد عام من العمل ، مات عمه الثرى ، ورث ثروة ضخمة الى حد ما لذا استقر من جديد فى المنزل وعاد للقراءة لرسالته ، ولمواضيعه المطروحة.
بعد ثلاث سنوات ، صارت الهوامش هدف الكتاب ، صار يشترى الكتاب ويفتحه ولا يغلقه أبدا ولكن يقفز الى أول مرجع يشير اليه الكتاب يفتح المرجع ويتابع القفز الى مرجع جديد ( يصر على تتبع الموضوع ... من أوله ! ) صارت الكتب تملأ جدران المنزل ، صار المنزل .. سريرا ومكتبا ومقعدا وكتبا !!
أصيب بداء فى عينيه منع على أثره من القراءة لفترة طويلة ، ولذلك صار يدفع بعض المال ليستأجر طالبا فقيرا يدرس القانون لكى يقرأ له ... وكان دائم التأكيد عليه على أهمية الهوامش ... وكان الطالب مطالبا بقراءة كل ما فى الهامش بعناية ... ( الولد يعانى ) ...
عاد بعد شفاء عينيه من جديد الى موضوعه القديم ( رسالة الدكتوراة ) .
لقد قرأ الكثير جدا من الكتب منذ حصل على معادل الماجستير منذ خمسة وعشرون عاما ، ولم يكتب حرفا واحدا بعد ، كان يشعر دائما ان الأمانة تقتضى منه أن يقرأ ... ويقرأ وأن يلم بكل شىء .. كل شىء .. كل شىء .
============
(من مجموعة يوميات خلود 1990)

2 comments:

kareem azmy said...

اية داه يا ساتر
الموضوع مش موضوع قراية و بس
انا متهيالي ده اصبح ادمان
و معنى انه مش قادر يكتب بعد الكم الهائل من القراية دي
فهو خلاص اصبح متلقي فقط

بجد موضوع مرعب جدا

كريم

Anonymous said...

من كل البوستات الجديده دى حسيت ان فيه بعض الجوانب منك جوا القصص
هل احساسى دا صحيح
بس اكيد مش بالصوره المرعبه دى
القراءه اجمل حاجه فى الدنيا...لكن مش هى كل حاجه
وماينفعش الواحد انه يعمل حاجه على حساب حاجات تانيه.. اهمها تكوينه كبشر
القصه روعه من حيث البناء والكتابه
بس الأقواس اللى فى النص دى بتخرجنى من مود القصه